الزهد والتصوف
ينبغي أن نذكر هنا أن في التصوف — وهو من أروع صور الزهد — في الإسلام، تتمثل تلك الصورة في حياة وآداب طائفة من الصوفية يعرفون بالملامتية أو بالملامية على حد قول بعضهم، ظهرت طائفة الملامتية في القرن الثالث الهجري في ابتداء العصر الذهبي من عصور التصوف الإسلامي بمدينة نيسابور بخراسان — وخراسان مهد الفرق والاختلافات الدينية والمذهبية الغريبة منذ دخول الإسلام إليها — وكان على رأسها الشيخ أبو صالح حمدون بن أحمد بن عمارة المعروف بحمدون القصار المُتَوفى في سنة ٢٧١ھ، ومن أجِلَّة مشايخها أبو حفص عمر بن سالم الحداد المُتَوفى سنة ٢٧٠ھ، وأبو عثمان سعيد بن إسماعيل الحبري المُتَوفى سنة ٢٩٨ھ.
للزهد ناحيتان: ناحية عملية يبدو أثرها في أعمال الزهد الظاهرة المتصلة — على حد قولهم — بأعمال الجوارح، أو المتصلة بأسلوب الحياة الروحية الخاصة التي يختارها الزاهد لنفسه أو التي يطالبه الشرع بها من مأكل ومشرب وملبس، أو صلاة وصوم وحج، أو تهجد وقيام بالليل ونحو ذلك، والناحية الثانية هي الناحية النفسية أو الباطنية المتصلة بأحكام القلوب وأعمالها من محاسبة للنفس ومراقبة لها ورعاية لله وحقوقه في كل ما يصدر عن النفس من قول أو عمل أو يخطر بالقلب من خاطر، وقد ظهرت هذه التفرقة في الزهد الإسلامي أول ما ظهر، بل قد وضعت — منذ العصور الإسلامية الأولى — حدًّا فاصلًا بين الفقهاء والمتصوفة من جهة، وبين مدرستين من مدارس التصوف الإسلامي: هما مدرستا العراق والشام، من جهة أخرى، وفي هذا المعنى يقول رويم البغدادي المُتَوفى سنة ٣٠٣: «كل الخلق قعدوا مع الرسوم؛ أي أحكام الشرع الظاهرة، وقعدت هذه الطائفة «الصوفية» مع الحقائق، وطالب الخلق كلهم أنفسهم بظواهر الشرع، وهم طالبوا أنفسهم بحقيقة الورع ومداومة الصدق.» وبهذا المعنى أيضًا يفرق بعض رجال الصوفية بين أهل الشريعة وأهل الحقيقة: أهل الظاهر وأهل الباطن، والصوفية بالرغم من إجماعهم على التمسك بالشريعة الإسلامية واتباع أوامر الدين وجعلهم ذلك ركنًا أساسيًّا من أركان التصوف، مختلفين فيما هو المقصود بالشريعة على وجه التحقيق، فبعضهم يفهم الشريعة بمعناها الظاهري من أنها جملة أوامر ونواهٍ تتصل بالعبادات والمعاملات والاعتقادات، وهؤلاء يعدون اتباع الرسول والقيام بشعائر الدين على نحو ما قام بها الرسول شرطًا أساسيًّا في طريقتهم، وبعضهم يقوم بشعائر الدين، ولكنه يعدها صورًا ورمزًا لمعان روحية أعمق في النفس وأبعد أثرًا، وطائفة ثالثة وهم الملامتية لا يقيمون لظاهر الأعمال الشرعية وزنًا، إذ الشريعة عندهم هي المعاملة الخالصة الصادقة مع الله، بل ربما عمد بعضهم إلى فعل ما يتنافى في الظاهر مع الشرع — ولا يتنافى في الحقيقة مع روحه — استجلابًا للوم الناس وتعذيرهم وبَخْعًا للنفس وتأديبًا، وأكثر ما يدفعهم إلى ذلك الفرار من الشهرة والرغبة في الابتعاد بالنفس عن مواطن الرياء، حتى إن أحدهم ليمر بالأذى فما يمعنه من رفعه عن الطريق إلا مخافة الشهرة، وإن أحدهم لتأتيه الدمعة فيصرفها إلى الضحك مخافة الرياء، ومن أمثلة أعمالهم التي يستجلب ظاهرها اللوم والتعذير، ما رُوِيَ من أن أبا عثمان الحيري طلب يومًا مالًا لينفقه في بعض الثغور، فتأخر عنه، فضاق صدره وبكى على رءوس الناس، فأتاه أبو عمرو إسماعيل بن نجيد السلمي «وكان آخر من مات من الملامتية من أتباع أبي عثمان» بعد العتمة بكيس فيه ألفا درهم، ففرح أبو عثمان ودعا له، ولما جلس في مجلسه نوَّه بعمل أبي عمرو وقال: «أيها الناس، إنا أبا عمرو قد ناب عن الجماعة في ذلك الأمر بشدة وحمل كذا وكذا، فجزاه الله خيرًا»، فقام أبو عمرو — وقد شعر أن صدقته قد ظهرت للناس — وقال: ردوا إليَّ المال، فقد أخذته خطأً من مال أمي، ولا بد من رده عليها، فأخرج إليه الكيس وتفرق الناس، فلما جاء الليل ذهب إلى أبي عثمان وأعطاه المال وقال: اجعله في ذلك الوجه من حيث لا يعلم الناس.
كانت حياة الزهد الحقة عند الملامتية هي حياة الروح لا الحياة المتمشية مع ظاهر الشرع، أو هي صدق المعاملة مع الله والإخلاص له وحده، لا المعاملة مع الناس، فلما حاولوا الوصول إلى هذه الغاية الشاقة العسيرة وجدوا النفس وأطماعها أكبر عائق اعترض سبيلهم، وأكثف حجاب وقف بينهم وبين ربهم فاعملوا معاولهم في هدم ذلك العائق وتمزيق ذلك الحجاب، وكانت معاولهم في ذلك أساليبهم في لوم النفس وعتابها وتأنيبها وتعريفها قدرها وإيقافها عند حدها، إذ طريق النفس في نظرهم طريق الأسر والعبودية والتعاسة والشقاوة في الدنيا والآخرة، والتخلص من النفس طريق الحرية والسعادة في الدارين، وفي هذا الجهاد الطويل العنيف ينحصر مذهب الملامتية، وفيه أيضًا تنعكس تلك الصورة الخاصة من صور الزهد الإسلامي التي هي موضوع هذا الكتاب، ويتلخص مذهبهم في النفس فيما وصفها به بعضهم بأنها «كف من عُجْب في قالب ظلمة، وكف من جهل في قالب رعونة، وأن دواءها الإعراض عنها، وتأديبها مخالفتها، وصيانتها ملامتها.» وفي قول آخر: «حسن الظن بالله غاية المعرفة بالله، وسوء الظن بالنفس أصل المعرفة بها.» فأصل الآفات كلها هي النفس وهي مصدر الآثام والآلام والشرور، ولكن آفة آفات النفس عندهم والدليل على فقرها وقفرها هو «الرياء»، ومن أجل هذا كان لهم في الرياء كلام لا يدانيهم فيه غيرهم، وحوله تجتمع أصول مذهبهم، ولما كان الإخلاص في نظرهم هو الخلو من الرياء — إذ الإخلاص ليس صفةً إيجابية وإنما هو حال تتحقق في النفس عند انعدام الرياء — كان أول واجب على الملامتي أن يمحو من صفحة النفس كل أثر من آثار الرياء، وهي كثيرة متنوعة، جلية أحيانًا دقيقة خفية أحيانًا أخرى، فمن الرياء الجلي الظهور بين الناس بملبس خاص، كلباس الصوفية من العباءة أو الخرقة أو ما شاكلهما، أو اعتزال الناس والانقطاع عن الكسب، أو الجلوس إلى الناس في مجالس الوعظ، أو التزين بشيء من العبادات، أو التباهي بالكرامات أو بأحوال الوجد والسكر والجذبة، وغير ذلك من الأعمال التي تُورث الشهرة وتنم عن حب الظهور، ولذلك حرم الشيوخ الملامتية على مريديهم كل مظهر من هذه المظاهر، ومن الرياء الخفي أن ينظر ملامتي إلى عمله فيعجب به أو يرى فيه أثرًا لنفسه لا يكون فضلًا ومنةً من الله، وكل عمل تقع عليه رؤية العبد باطل، بل إن وقوع الرؤية عليه دليل الغفلة ودليل عدم قبوله، فالواجب على الملامتي ألا يرى عمله، بل يرى العجز والتقصير في أدائه، ولقد يبالغ بعضهم فيرى أن النظر في العبادات والأعمال وتعظيمها ضرب من الشرك، لأنها تقلب العابد معبودًا؛ إذ المُعظِّم لعمله يشرك في حق الله بتعظيمه عملًا غير عمل الله.
ومن خفي الرياء عندهم أن يجد العابد لذة العبادة والطاعة في نفسه؛ لأن من استحلى شيئًا واستلذه عظم ذلك الشيء عنده، وتعظيم عمل النفس رياء، لذلك كان أخلص الأعمال والأحوال عندهم ما اعتقد صاحبه أنه مما أجراه الله على العبد من غير أن يكون له فيه إرادة، وليس على العبد إلا الاقتداء وترك الاختيار، ومن هنا كانت الطاعة في نظرهم من مرض النفس؛ لأن الطاعة تقتضي الاختيار، ودواء ذلك المرض الإنابة إلى الله والتسليم بمسبوق قضائه، بحيث لا يكون للعبد في عمله قليل أو كثير، وقد أدى بهم منطقهم لا إلى إسقاط الأعمال فحسب، بل إلى إسقاط الثواب على الأعمال أيضًا، فأقل الناس معرفةً بربه هو الذي يظن أن فعله أو طاعته تستجلب عطاءً من الله أو ثوابًا، بل المعرفة الحقة هي العلم بأن كل ما يرد من الله من نعم الدنيا وثواب الآخرة إنما هو فضل من الله من غير استحقاق من العبد، وقد كان الملامتية والمتقدمون من الصوفية يرون أن من صفات العبودية الحقة لله ألا يكون العبد في أعماله وأحواله التي بينه وبين الله كالأحرار؛ لأن من عادة الحر طلب الأجر وانتظار العوض على ما يعمل، وليس ذلك من شيمة العبيد، فإذا طمع العبد في شيء من ذلك فقد ترك سمة العبيد، وقد غلط بعض القوم فظن أن الحرية أعلى مقامًا من العبودية، قياسًا على أن الأحرار أعلى مرتبةً في أحوال الدنيا من العبيد، فذهبوا إلى أن العبد ما دام بينه وبين الله تعبد فهو مسمًى باسم العبودية، فإذا وصل إلى الله صار حرًّا وسقطت عنه العبودية وتكاليفها، والحقيقة أن العبد لا يكون عبدًا حقًّا إلا إذا كان قلبه حرًّا من جميع ما سوى الله: فهذه هي الحرية الخالصة، ولكنها العبودية المحضة أيضًا.
(١) زهد أبي العتاهية
فكرتان يفيض فيهما أبو العتاهية إفاضةً ظاهرةً: إحداهما زوال الدنيا وغرورها وباطلها، والثانية هول الموت ووحشة القبر وبشاعة الفناء، فأما الأولى فليس في تصوير أبي العتاهية إياها أمر غير مألوف لزهاد الإنسانية عامةً، ولأتقياء صدر الإسلام خاصةً، فالقرآن يقول: إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ، وقد تكرر هذا المعنى في خطب الرسول وخلفائه، ولا سيما صاحب نهج البلاغة، وقد حفظ الأدب عند زهاد القرن الأول كالحسن البصري وغيره أقوالًا في ذم الدنيا كفيلة أن تلهم شاعرًا متزهدًا مثل أبي العتاهية ألوانًا من المعاني وضروبًا من التصوير.
فالدنيا عند شاعرنا ليست بدار بقاء، وإنما هي دار فناء، حلاوتها ممزوجة بمرارة، وراحتها ممزوجة بعناء، تداعيها سريع، وزوالها وشيك، مَن ولد فيها فللموت، ومن بنى فللخراب، ما طلعت فيها شمس ولا غربت إلا لآجال، ومن عجبٍ أننا فيها نلهو وأيامنا تذهب، ونلعب والموت لا يلعب، ونتكالب على الدنيا وهي تجتاحنا، ونتطاحن عليها ورحاها تدور من فوق رءوسنا.
وأما الموت فموقف أبي العتاهية منه غريب حقًّا، فهو لا يحن إلى الموت كلما حن إليه الزهاد في مختلف العصور، وهو لا يدلف إلى منيته بنفس مطمئنة ظامئة إلى لقاء الله، ولكنه يبدو في صورة المَغِيظ المُحْنَق، الفَزِع من أهوال الموت وسكراته، ومن وحشة البِلى وضمة القبر وفعل الفناء في الأجسام، فهذا الموت لا والدًا يُبقي ولا ولدًا، ولا صغيرًا ولا شيخًا ولا أحدًا، وله في الناس سهام غير مخطئة، من فاته اليوم سهم لم يَفُتْه غدًا، والمنايا تجوس البلاد، وتُبيد العباد، وستنال منا كما نالت من قبل من ثمود وعاد، ومن نزار وإياد، ومن بني الأصفر أهل القباب والأطواد، ونحن نريد بقاءه والخطوب تكيد لنا، والموت يهوي فاغرًا فاه نحونا، فيجردنا من أصدقائنا أو يختطفنا من بين أحبائنا، ويُلقي بنا إلى حُفَر تنعفر فيها الوجوه النضرة، وتبلي الأجساد المنعمة، فلا يبقى منها بعد ذلك إلا جماجم عارية وعظام نَخِرة، وليت الأمر وقف عند هذا.
فأبو العتاهية في تصويره للموت إنما يقف منه موقف الساخط المتشائم الذي يكره الموت والبِلى، ويعجبه ريح الحياة وطيبها، ولكن أين أين المفر؟! وإذًا فليزهد الشاعر في الحياة ما دامت هذه نهايتها، وليقف فنَّه على تحذير الناس من الركون إليها، وليشرح لهم حماقة من يبني فيها القصور ويشيد الدور ويجمع الأموال، وينشد المنصب والجاه.
وظاهر أن هذا الموقف لا يطابق تمام المطابقة وجهة النظر الإسلامية العامة في الحياة والموت، والفناء والبقاء؛ فالإسلام في غالبية نصوصه ومواقف العارفين بأسراره قد جعل الدنيا مطية الآخرة، وحبب إلى الناس لقاء ربهم، فمن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، والموت حق، والجنة حق، والنار حق، والمؤمنون مطالَبون أن يعملوا لدنياهم كأنهم يعيشون أبدًا، ويعملوا لآخرتهم كأنهم يموتون غدًا، وربما وردت في أقوال الصالحين من رجال الصدر الأول عبارات زهد في الدنيا؛ لأن نهايتها الفناء، ولكنها أقوال عابرة نادرة لا تؤلف عند أصحابها مثل هذا الموقف اليائس المتشائم الذي وقفه أبو العتاهية.
ولعل هذا كان مما دفع باحثًا مثل «جولدتسيهر» إلى تلمُّس مصادر الزهد العتاهي في الأفكار، والمُثُل الهندية التي تسربت إلى المسلمين في القرن الثاني من الهجرة، يقول جولدتسيهر في كتابه «العقيدة والشريعة في الإسلام»: «نخلص من هذا إلى بيان هذه الحقيقة، وهي أن الفكرة الدينية المسماة بالزهد التي صادفت الإسلام السني، والتي لا تتفق مع السمات المألوفة التي نعرفها في التصوف الإسلامي، تكشف عن آثار قوية تدل على تسرب المثل الأعلى للحياة عند الهنود إلى الإسلام، ومن أعظم المعبرين عن فكرة الزهد هذا الشاعر أبو العتاهية الذي عرض نموذجًا للرجل الفاضل الجليل بقوله:
أو ليس هذا هو بوذا.»
ويناقش «نيكولسون» في كتابه: «التاريخ الأدبي للعرب» فكرة جولدتسيهر على أساس أن هذين البيتين يحتملان تأويلًا آخر وأنه ليس من الضروري أن يكون زهد أبي العتاهية هنا متجهًا إلى بوذا والتعاليم البوذية، غير أن نيكولسون يعقب على ذلك بقوله: «نعم، إن كثيرًا من ديوان أبي العتاهية ليس دينيًّا خالصًا بالمعنى الإسلامي، وربما صح أن يُسمى فلسفيًّا، وقد كان هذا كافيًا للحكم عليه بالزندقة والإلحاد في أعين معاصريه من اللاهوتيين المتزمتين الذين كانوا ينظرون شزرًا إلى كل تعاليم أخلاقية ليست مصوغةً في قالب العقيدة، وربما كان السبب الظاهر الذي قيل في حبس الرشيد إياه من أنه امتنع عن قول الغزل ليس إلا صورةً شعبيةً للحقيقة الواقعة من أنه دأب على نظم قصائد دينية تميل ميلًا خطرًا إلى ناحية التفكير الحر.»
ثم يقول المؤلف: «وعلى الجملة، فالشعر الديني الذي كان يحمل لواءه في ذلك العصر «صالح بن عبد القدوس» و«أبو العتاهية» فيه نزعة ثنوية كان ينزعها الفرس قديمًا، ولنا أن نقول الآن إنه إن كان في نزعة بشار الإباحية عنصر مزدكي، ففي نزعة أبي العتاهية الزاهد عنصر مانوي.»
فالباحثون الثلاثة كما ترى يلتقون في أن أبا العتاهية قد تأثر بمؤثرات أجنبية في نزعته الزهدية، وأن روح هذه النزعة لم تكن إسلامية صرفةً، وهي فكرة لها ما يؤيدها في تحليل موقف أبي العتاهية من الموت، وفي إشارات في شعره جعلت بعض السابقين من المؤلفين من أمثال «الصولي» ينبهون إلى ما في نظام تفكير أبي العتاهية من عناصر فلسفية ومذهبية، وليس هناك من شك في أن أبا العتاهية تعرض لأمثال تلك المؤثرات بحكم بيئته وثقافة عصره وما كان في ذلك العصر من تسرب الثقافات الهندية والفارسية واليونانية إلى المجتمع الإسلامي من طرق مباشرة وغير مباشرة، ولكن ضآلة نتائج هذه المؤثرات في شعر أبي العتاهية تجعلنا أميل إلى التماس مصادر تفكيره الزهدي في جداول الحياة الإسلامية العربية المشتركة، ويقوي هذا الميل عندنا أن الرجل لم يكن معروفًا بتوسع في ثقافة، ولا عمق في تأمل، ولا انصراف إلى تفلسف، ولم يُعْرَف عنه أنه شارك مشاركةً جديةً في مناقشة مذهبية أو دعوة دينية، وهذه الناحية فيه لم تفت معاصريه، فجاره يقول عنه فيما يرى صاحب الأغاني، أنه كان من أقل الناس معرفةً وقال له مرةً «بشر المريسي»: يا أبا إسحاق! لا تصل خلف فلان جارك وإمام مسجدكم فإنه مُشَبِّهٌ. فقال أبو العتاهية: كلا! إنه قرأ بنا البارحة «قل هو الله أحد»، كأنما يظن شاعرنا أن المشبه لا يقرأ قل هو الله أحد، ويذكر الجاحظ أن أبا العتاهية أراد مرةً أن يناقش «ثمامة» بين يدي المأمون، فقال له المأمون: عليك بشعرك! فألح على الخليفة أن يأذن له بمساءلة ثمامة فأَذِن، فألقمه ثمامة حجرًا، فضحك المأمون وقال له: ألم أقل لك أن تشتغل بشعرك وتدع ما ليس من عملك! ويذكرون أنه كان مذبذبًا في مذهبه يعتقد شيئًا فإذا سمع طاعنًا عليه ترك اعتقاده إياه وأخذ غيره، ولست أظن أن أهل عصره كانوا جادين في اتهامه بالزندقة، فقد كانت المسألة أحيانًا لا تعدو شيئًا من الخصومة الأدبية أو التناظر في ميدان مشترك كالذي كان بينه وبين منصور بن عمار، مما دفع منصورًا إلى أن يُشنع عليه بأنه لا يذكر في شعره الجنة والنار، وإنما يذكر الموت، وإذا ذكر الجنة فإنما يتهاون بها ويتبذل ذكرها شعره، وربما جاءته التهمة مما عُرِف عنه من جمع الأموال وكنزها ثم التزهد مراءاةً ونفاقًا كما يقول سلم الخاسر، لا سيما إذا انضم إلى هذا عدم اشتهاره بالمشي إلى المساجد، وقد أشار إلى هذه النواحي جماز ابن أخت سلم الخاسر في قوله يُعرض بأبي العتاهية:
كان أبو إسحاق — إذًا — شاعرًا واعظًا من أوساط جمهرة المسلمين، نشأ نشأةً فقيرةً طابعها الحرمان، في عصر كان المجدودون من أهله ينتبهون اللذات انتهابًا، فهو زاهد صوفي على نوع ما.