فتوح العرب في بلاد الإفرنج
فتح المسلمون إسبانيا سنة ٩٢ھ/٨١١م بقيادة طارق بن زياد البربري، كما بيَّنا ذلك في رواية «فتح الأندلس» وكان طارق من موالي موسى بن نصير عامل بني أمية على إفريقية أي من أتباعه، وموسى يومئذ شيخ قد ناهز الثمانين من عمره، فلما فتحت الأندلس أصبحت من توابع تلك الولاية أو فرعًا من فروعها، وعاملُ إفريقية يقيم في القيروان، وهو الذي يولي عمال الأندلس، وما زال ذلك شأن الأندلس حتى استقلت على عهد الدولة الأموية الأندلسية بعد ظهور العباسيين في المشرق.
فلما تهيأت أسباب الفتح لموسى وهو في إفريقية، استشار الخليفة في ذلك فوافقه، وحذره، فلم يشأ موسى أن يفرط في جند العرب وهم يومئذ قليلون بالنسبة إلى أهل البلاد الأصليين في معظم البلاد التي فتحوها، وخصوصًا في إفريقية، فأنفذ في تلك المهمة حملة أكثرها من البربر: سكان إفريقية الأصليين، وقائدهم مولاه طارق، فلما حدثت الوقعة بين طارق ورودريك في فحص شريش وقتل رودريك سنة ٩٢ھ، أصبح فتح الأندلس أمرًا مقضيًّا، ولم تمضِ سنة حتى فتحت قرطبة ومالقة وطليطلة وغيرها من مدن الأندلس العظمى وتأيدت شوكة المسلمين هناك.
فلما بلغ خبر ذلك النصر السريع إلى موسى تمنى أن تكون له يد فيه، فكتب إلى طارق أن يتوقف ريثما يأتيه هو، وجند جندًا آخر من العرب والبربر وقدم إلى إسبانيا من جهة أخرى، ففتح مريدة وسرقوسة وغيرهما، ولما رأى سهولة الفتح عليه أوغل في إسبانيا حتى تجاوز جبال البيرينة إلى فرنسا فغزا بلادًا منها إلى نربونة وقد عزم على مواصلة الفتح في بلاد أوروبا حتى يعود إلى الشام من طريق القسطنطينية فيتم له فتح العالم المعمور يومئذ، ولم يكن باقيًا منه إلى ذلك الحين غير أوروبا وكانت في غاية الاضطراب والانقسام.
وفي أثناء تلك الحروب شب خلاف بين موسى وطارق، واستفحل أمره فاضطر الخليفة في دمشق إلى استدعائهما إليه للنظر في أمرهما فشخصا إلى الشام، وولى موسى على إسبانيا ابنه عبد العزيز فجعل عاصمته إشبيلية ثم أتى هو إلى دمشق ومعه من الغنائم والسبايا ما لا يحصى، وجاء طارق أيضًا (سنة ٩٤ھ) وتحاكم الاثنان إلى الخليفة الوليد، وفي أثناء المحاكمة توفي الوليد فخلفه أخوه سليمان بن عبد الملك سنة ٩٦ھ، وكانت بينه وبين موسى ضغائن، فشدد النكير عليه وعلى أولاده، فأوعز إلى بعض الأمراء في الأندلس أن يقتلوا عبد العزيز فقتلوه وحملوا رأسه محنطًا إلى دمشق، وكان موسى في السجن، فاستقدمه سليمان وأراه رأس ابنه وسأله: هل يعرفه، فدعا موسى على قاتله وصدمه ذلك المنظر فمات بعد قليل، ولا ندري ماذا انتهى إليه أمر طارق.
ذهب موسى وطارق، ولم يذهب من فكر العرب فتح أوروبا، فكانوا يترقبون الفرص ويحول دون تحقيق هدفهم ما نشب من الخصام بين قبائلهم، على أنهم عادوا إلى مشروع موسى من طريق آخر، فأنفذ الخليفة سليمان سنة ٩٨ھ، حملة كبيرة عن طريق القسطنطينية بقيادة أخيه مسلمة بن عبد الملك فحاصرها، وطال حصارها حتى توفي سليمان، وتولى الخلافة عمر بن عبد العزيز سنة ٩٩ھ، فسحب الجند وقد امتنع عليهم الفتح من ذلك الطريق فعادوا إلى السعي إليه بطريق الأندلس.
وتوالى على الأندلس عدة أمراء فتحوا مدنًا كثيرة من جنوبي فرنسا، لم تثبت أقدامهم إلا في قليل منها، ثم أفضت الإمارة إلى عبد الرحمن الغافقي سنة ١١٢ھ/٧٣٠م وكان رجلًا حازمًا تقيًّا محترمًا غيورًا على الإسلام والمسلمين، فأخذ على عاتقه استئناف العمل لفتح أوروبا عن طريق غاليا (فرنسا) فألمانيا فالمملكة الرومانية إلى الشام وكانت عاصمة الأندلس يومئذ قد انتقلت إلى قرطبة، فأخذ عبد الرحمن في إعداد الجند للخروج على بلاد الإفرنج، وكانوا يسمونها يومئذ الأرض الكبرى، وكان عبد الرحمن حذرًا، فخشي أن يخفق في مهمته كما أخفق أسلافه، وكان قد عرف علة إخفاقهم فعمد إلى تلافيها فطاف بإسبانيا بنفسه، وتعهد حكامها، فعزل الضعفاء وأهل المطامع من أمرائها وأبدلهم برجال ذوي دراية وحلم، ليحسنوا سياسة الناس من أهل الذمة، وأنصف هؤلاء فرد إليهم ما كان قد اغتصبه أسلافه من كنائسهم وأملاكهم، وأعادهم إلى ما كانوا عليه في زمن موسى بن نصير لعلمه أنه لا يفوز في مهمته إلا إذا أحسن سياسة الرعية وعاملهم بالحق والرفق، وإلا فإنهم يكونون عونًا عليه، وكان عبد الرحمن وهو في ذلك الطواف يخطب المسلمين في المساجد، ويحرضهم على الجهاد في سبيل الله لفتح غاليا وما وراءها حتى يعم الإسلام كل العالم.
•••
وكان لكلامه تأثير عظيم في المسلمين العرب وغيرهم، فتقاطروا من إفريقية ومصر والشام والحجاز واليمن، وفيهم العرب والبربر والمولدون من المصريين والسوريين على اختلاف القبائل والشعوب، وقد تدافعوا إلى الجهاد في سبيل الدين إجابة لدعوة عبد الرحمن، وهم إنما وثقوا به لما اشتهر من حزمه وكرم أخلاقه وعدله وصدق إسلامه، وتألفوا حوله فرقًا باعتبار قبائلهم وأجناسهم وهو أميرهم الأكبر.