بعض السر
فلما رأى عبد الرحمن من تلك المرأة التماس الخلوة، توهم أنها ستطلعه على سرها، فلما خلوا بدأها بالكلام قائلًا: «أطلعيني يا أخية على اسمك قبل كل شيء؛ لأناديك على الأقل.»
قالت: «إذا كان هذا هو المراد من معرفة اسمي فنادني سالمة.»
قال عبد الرحمن: «لقد أدهشني يا سالمة ما رأيته من غريب شأنك، وأراني كلما سمعت حديثك أزداد رغبة في استطلاع حقيقة أمرك، وكأني بك قد التمست الخلوة رغبة في مكاشفتي بسرك.»
فأصلحت سالمة من شأنها والتفت بثوبها، وأخفت يديها في كمها وفيه المحفظة، ونظرت إلى عبد الرحمن والاهتمام باد في عينيها، وقالت: «اعلم أيها الأمير أنك تخاطب امرأة غير عربية وغير مسلمة، ولكنها من أشد الناس غيرة على العرب وعلى المسلمين، وأستأذن مولاي الأمير بالاقتصار على ما عرفه من أمري لأسباب ستتضح له قريبًا إن شاء الله، وأما الآن، فإني أهب نفسي لتحقيق المشروع الذي قمتم لأجله فأبذل ما في وسعي في سبيله.»
فاستغرب عبد الرحمن تسترها، وخشي أن يكون من ورائه خديعة أو دسيسة، فقال لها: «ومن يضمن لنا أنك تقولين الصدق؟»
قالت: «لقد أعجبني سوء ظنك فيَّ ولو لم يبد ذلك منك لاستضعفتك؛ لأن من كان قائدًا لمثل هذا الجند الكبير لا ينجو من أهل الخداع والدسائس، فإن لم يسئ الظن فيمن يصادفهم بات في خطر من دسائسهم، أما دعواي، فلو صرحت لك بأمري لهان عليك تصديقها، ولكن الآن يكفي دليلًا على صدق ما أقول أن أجعل ابنتي ووحيدتي رهنًا بين يديك، فإن بدرت مني بادرة تدل على الخيانة أو الغدر فافعل بها ما شئت.»
وكان كلام سالمة قد نبهه إلى ما يحدق به من أسباب الخداع والمكر، فبالغ في إساءة الظن بها فقال لها: «ومن يؤكد لنا أنها ابنتك، فإن الشبه بعيد بينكما ويظهر أنها عربية ولست أنت كذلك.»
فأطرقت سالمة هنيهة، ثم قالت: «أما هذا فلا سبيل إلى إثباته بغير السؤال من الفتاة نفسها والخادم الشيخ، فإنه عربي مسلم وهو وحده المطلع على سري، ولكنه لا يبوح به إلا في حينه فاسألوه.» قالت ذلك ودلائل الإخلاص وصدق اللهجة يتجليان في عينيها، وبما بدا على وجهها من أمارات الحياء والاهتمام.
فتحقق عبد الرحمن بفراسته أنها تقول الصدق، فقال: «لقد صدقتك يا سالمة، فأخبريني متى يحين الوقت لكشف سرك؟»
قالت: «إن كشف هذا السر غير مقيد بزمان، وإنما هو مرهون بحادث، إذ لا يجوز كشفه إلا بعد أن يقع هذا الحادث.»
قال عبد الرحمن: «وما هو ذلك الحادث.»
قالت: «لا أقوله الآن، وإنما يقربنا منه صدق النية في فتح هذه البلاد وهذا هو الأمر الذي وهبت نفسي له، فإذا أذن مولاي أن أساعده فيه فعلت.»
فلبث عبد الرحمن صامتًا، وهو مطرق يفكر فيما سمعه ويحلله في ذهنه، فرأى مفتاح السر كله في معرفة والد الفتاة مريم فرفع بصره إلى سالمة، وقال وهو يلاعب أطراف حمائل السيف بين أنامله: «لا بأس من تأجيل الاطلاع على سرك وإنما ألتمس منك أمرًا، فهل تصدقينني فيه؟»
قالت: «إذا استطعت ذلك فعلته.»
قال عبد الرحمن: «أريد منك فقط أن تخبريني من هو والد هذه الفتاة، وأين هو؟»
فلما سمعت سؤاله بغتت وتصاعد الدم إلى وجهها وتغيرت سحنتها وبدت الكآبة في جبينها وحول فمها، وأطرقت مدة لا تتكلم ثم رفعت بصرها إليه وقد أبرقت عيناها بما ترقرق فيهما من الدمع وقالت: «تسألني عن مكان أبيها وأنت تراني في هذا الثوب الأسود؟» قالت ذلك وأمسكت طرف الخمار بين الإبهام والسبابة، وقد غصت بريقها.
فندم عبد الرحمن على سؤاله عن المكان، فقال: «لم أتعمد أن أذكرك بمصابك، بوفاة زوجك وإنما أردت معرفة اسمه، ولا أرى مانعًا من إطْلاعي عليه ونحن في خلوة ليس فيها ثالث، وأعاهدك على كتمان ذلك عن كل إنسان، إنني لا أطلب منك الاطلاع على سرك، وإنما أريد معرفة زوجك.» قال ذلك وهو يتوقع إجابة على سؤاله.
أما هي فلما رأت إلحاحه في معرفة اسم زوجها بدا الغضب على وجهها، وقالت: «يظهر أني أخطأت فيما عرضته من خدمتكم وأنا أصادف ما أراه من الإلحاح عليَّ والضغط على أفكاري، لو كان التصريح باسم ذلك المسكين ممكنا لفعلت ولم أكلفك هذا العناء في السؤال، ثم إني لا أرى فائدة من ذكره الآن وسيأتي وقت تعرف فيه كل شيء.»
فاستغرب عبد الرحمن تكتمها، وازداد رغبة في معرفة سرها، ولكنه لم يرَ أن يرغمها على ذلك قهرًا مراعاة لشعورها وطمعًا في الانتفاع بخدمتها، فجاءها من جهة أخرى، فقال: «حسنًا بقي سؤال واحد أرجو ألا يكون حظي في الجواب عليه مثل حظي في سواه هل أقوله؟»
قالت: «قل ما بدا لك.»
قال عبد الرحمن: «أرى ابنتك من الجمال فيما ليس بعده غاية، وهي في سن الزواج، وأنت وحيدة فلماذا لم تزوجيها بشاب تعيشين في حمايته؟ ولا ريب عندي أنك تجدين من الطلاب من تقر به عينك لما هي عليه من الجمال والهيبة.»
فالتفتت سالمة وقد انقشعت مظاهر الكآبة عن محياها، وتحول انقباضها إلى انبساط، وقالت: «أما هذا السؤال، فلا بأس من الجواب عليه.»
فاستبشر عبد الرحمن وقال: «وما هو؟»
قالت: «إن الابنة مخطوبة منذ طفولتها.»
قال عبد الرحمن: «لمن؟»
قالت: «لرجل مسلم يغار على الإسلام والمسلمين ويكره الظلم والظالمين، باسل شجاع واسع الصدر كريم النفس.»
قال عبد الرحمن: «وما اسمه؟»
قالت: «لست على يقين من معرفة اسمه الآن.»
قال عبد الرحمن: «وهل تعرفه ابنتك؟»
قالت: «لا أعرفه أنا ولا تعرفه هي، ولا يعرفه أحد سوانا.»
فدهش عبد الرحمن، وقال: «كيف يكون ذلك يا سالمة؟ يظهر أنك تمزحين أو تدافعين بالباطل.»
قالت: «أقسم بالرب المعبود إنني أقول الصدق.»
فقال عبد الرحمن: «وكيف تكون ابنتك مخطوبة لرجل لا تعرفون له اسمًا ولا لقبًا؟»
قالت: «أما لقبه، فإننا نعرفه.»
قال عبد الرحمن: «وما هو؟»
قالت: «يلقب بفاتح بلاد الإفرنج بالسيف ومؤيد الإسلام فيه بالحق والعدل.»
•••
ففهم عبد الرحمن أنها تريده هو، إذ لا يصدق ذلك اللقب على سواه، ولذلك أراد أن يتحقق من ظنه، فقال وهو يتجاهل مرادها: «ومتى يكون الزواج؟ وأين؟»
قالت: «يجوز الزواج في أي وقت يريده الخطيب، ولكنه لا يكون إلا وراء نهر لوار.»
قالت ذلك وهي تنظر إلى عبد الرحمن نظرة استفهام، كأنها تقول له: «هل فهمت من هو؟»