نهر لوار
فأدرك عبد الرحمن أن المراد بتقييد الزواج بذلك المكان هو تعجيل الفتح حتى يقطع المسلمون نهر لوار، وهو آخر حدود أكيتانيا من جهة الشمال، في الطريق الذي هم سائرون فيه، فثار في خاطره حب الفتح، وأحس من تلك الساعة بميل إلى مريم بنت سالمة، وكان قد استلطفها منذ شاهدها في ذلك المساء، وهو في شاغل من أمر الحرب والنصر وتنظيم الشئون، فلما سمع ما قالته سالمة وتذكر الفتاة وما في عينيها من الجاذبية، شعر بميل إليها أحياه فيه الأمل في الظفر بها وذلك أمر طبيعي في مثل هذه الحال فقد يرى أحدهم الفتاة مرارًا ويستلطفها، ولكنه لسبب من الأسباب لا يرجو الظفر بها، فإذا تنسم خبرًا يثير في نفسه الأمل في الحصول عليها يشعر للحال بانعطاف ينمو فيه حتى يصبح شغفا، ولا تقتصر هذه القاعدة على الحب ونحوه، بل إنها تنطبق على سائر مطامع بني الإنسان باعتبار ميولهم فقد يكون أحدهم محبًّا للسلطة مثلًا، ولا يكون له مطمع فيها لإحساسه بالعجز عنها بضعفه أو فقره، فإذا ظهر له من بعض ثقاته أن ذلك في إمكانه شغف بها، وبذل نفسه في سبيل الحصول عليها، وقد أصاب عبد الرحمن الغرضين معًا؛ لأن عبارة سالمة أثارت حماسته لإتمام الفتح، وأحيت فيه الميل إلى مريم فاكتفى بما دار من هذا القبيل، لئلا يبدو منه ما لا يليق بمكانته فتجاهل وعاد إلى مجاراتها في كتمان اسم زوجها وهدفها من الاندفاع إلى مساعدتهم، على أمل أن يعرف ذلك في فرصة أخرى، وقال لها: «دعينا الآن من هذا وأخبريني ما الذي تنوين مساعدتنا فيه لتحقيق هذا الفتح؟»
قالت: «ليس لي سيف أناضل به عنكم أو أشترك فيه معكم، ولكنني خبرت طبيعة هذه البلاد وعرفت من أحوالها ما لو عرفه المسلمون لفتحوها على أهون سبيل.»
فقال عبد الرحمن: «وما ذاك؟»
قالت: «هل يخفى على الأمير عبد الرحمن أن الغاليين أهل هذه البلاد هم غير الإفرنج الذين يحاربونكم ليمنعوكم منها؟ وأن الدوق أود حاكم أكيتانيا هذه وجنده ليسوا أقرب إلى قلوب الغاليين من قائد جند المسلمين ورجاله؟»
قال عبد الرحمن: «وكيف ذلك؟»
قالت: «إن سكان هذه البلاد أخلاط من الروم والغال ومعنى ذلك أن الغاليين أهل هذه البلاد الأصليين كانوا أمة كبيرة، وقد ظلوا في حال البداوة والاستقلال حتى جاءهم الروم في القرن الأول قبل الميلاد ففتحوها على يد يوليس قيصر القائد الشهير، وما زالت في حوزتهم نحو خمسة قرون، وقد ضعفت دولة الروم فهاجمتها قبائل الجرمان من الشمال كما هاجمتها قبائل العرب بعد ذلك من الجنوب والإفرنج إحدى قبائل الجرمان ففتحوا غاليا هذه واستولوا عليها، ويعرف حكامهم بعائلة ميروفي نسبة إلى أول من تولاها منهم، وتوالى الحكم في هذه العائلة إلى الأمس، وقد أفضى الأمر إلى ملوك ضعفاء طمع فيهم وزراؤهم وأمراؤهم فاقتسموا البلاد بينهم، ومن أقسامها أكيتانيا التي نحن فيها، وآخر حدودها من الشمال نهر لوار ويحكمها الدوق أود صاحبكم، ثم أوستراسيا وراء هذا النهر وحاكمها شارل (قارله) وزير آخر ملوك الميروفية وكلاهما من قبائل الفرنك، ولكن كلًّا منهما ينظر إلى الآخر بعين الحذر، والأهالي ينظرون إلى كليهما بعين المقت لعلمهم أنهما إنما يرغبان في فتح بلادهم للتمتع بها، ثم جئتم أنتم والفتح إما لكم وإما لهما فالغاليون محكومون في الحالتين، ولا يهمهم لمن تكون الغلبة من الجندين إلا إذا رأوا في أحدهما ميزة على الآخر تضمن لهم مصلحتهم وراحتهم.»
فلم يتمالك عبد الرحمن أن قطع حديثها بقوله: «وبالطبع هم يفضلون الإفرنج؛ لأنهم نصارى مثلهم؟»
فابتسمت سالمة وقالت: «ليس الأمر كذلك يا مولاي إن الدين لا دخل له في هذه الحرب، وإنما ساق قبائل الإفرنج إلى هذا الفتح حب السلطة والطمع في الكسب، ولذلك فإنهم انقسموا فيما بينهم، فإن أود حاكم أكيتانيا التي نحن فيها الآن يحاذر من شارل حاكم أوستراسيا كما قدمت، ويخشى سلطانه، وكل منهما يجتهد في الانتقاص من الآخر في عين الأهالي وهؤلاء يبغضون كليهما؛ لأنهم لم يروا في معاملتهما ما يبشرهم بخير لما تعلمونه من عادتهم في استبعاد الرعية وابتزاز أموالهم وسائر قواهم خلافًا للعرب عند أول الفتح، فإنهم لما فتحوا إسبانيا تركوا لأهلها الحرية في كل معاملاتهم، ولم يتعرضوا لهم في شيء من دينهم، وأفضل أمراء المسلمين في ذلك موسى بن نصير وابنه عبد العزيز وخصوصًا هذا الأخير، ولو لم يعجلوا عليه — رحمه الله — لفتحت هذه البلاد على يده إذ أحس الإسبان في أيامه أنهم انتقلوا من الضيق إلى الفرج، ولكنهم ما لبثوا أن ذاقوا مرارة الظلم من بعض الذين خلفوه من أمراء المسلمين، ثم أفضت الإمارة إليكم، وبلغني أنكم سائرون على خطة ذلك الفاتح العظيم في محاسنة الناس وإنصاف أهل الذمة، ورعاية العهود معهم فيما يتعلق بكنائسهم وديانتهم، وقد تحقق لي ذلك الآن فالغاليون إذا ضمنوا سلامتهم وسلامة أهلهم ومعايشهم على يد المسلمين، فإنهم يكونون عونًا لهم على الفتح ولا تنس اليهود فإنهم أنصاركم في كل فتوحاتكم من أول ظهور الإسلام فهؤلاء إنما نصروكم حينما تحققوا مما تنوونه من أسباب الراحة لهم، وكذلك النصارى وغيرهم من أهل هذه البلاد، وأما ما يبدو لكم من شارات النصرانية والغيرة عليها فمحصور في طائفة الأكليروس، ومن يهمهم نصرة الكنيسة من بقايا الرومان، ومن انتمى إليهم من الغاليين، أما قبائل الإفرنج، فبينهم من اتخذ الدين ذريعة للسلطة وكسب الأموال كما فعل بعض قبائل البربر وغيرهم من جنودكم.»
فلما سمع عبد الرحمن قولها، تحقق من سداد رأيه فيما شرع فيه من محاسنة أهل الذمة وتوخي العدل والإنصاف، وقال: «أنت تعلمين أني فاعل ذلك من تلقاء نفسي، فما الذي تفعلينه أنت في هذا السبيل؟»
قالت: «إني أقدم نفسي للذهاب في أية مهمة تفرضونها، والأفضل على ما أرى أن أتقدمكم في البلاد التي تنوون المسير لفتحها، فأغرس في قلوب أهلها الاطمئنان للمسلمين وسلطانهم، ويساعدني على ذلك مبالغتكم في إكرام نصارى بوردو وطمأنة قلوبهم ومحاسنتهم واحترام شعائر دينهم والمحافظة على أعراضهم وأرواحهم، فإذا فعلتم ذلك هان عليَّ إقناع أولئك بأن المسلمين الفاتحين أهل حرمة وذمام، يخافون الله ويعملون بالعدل، وليس كما يتوهم بعض ذوي الأغراض أن المسلمين قساة القلوب لا دين يردعهم عن ارتكاب المحرمات ولا حنان في قلوبهم يمنعهم من الظلم والعسف، وقد حمل الناس على تصديق ذلك ما كان يرتكبه بعض الذين كانوا يرافقون جند المسلمين لمجرد الرغبة في النهب والقتل، ولم يكن أميرهم حكيمًا عاقلًا مثل عبد الرحمن ليصلح ما يفسدونه مما رأيناه منه في هذا المساء.»
فازداد عبد الرحمن إعجابًا بتفكير تلك المرأة وغيرتها على المسلمين، وقال: «افعلي ما يتراءى لك وإني فاعل بنصارى بوردو ما تريدينه فما الذي يرضيهم؟»
فقالت: «إنما يرضيهم المحافظة على شعائرهم الدينية واستبقاء كنائسهم ومعابدهم ثم رد أسراهم بالفدية مثلما جرت العادة، وهناك أمر ذو بال أوجه نظركم إليه، وذلك أن بيع أسرى النصارى إلى اليهود مما يسيء إلى النصارى لما تعلمه من الضغائن بين الطائفتين، وخصوصًا بعد ما ظهر من ممالأة اليهود لكم وتسهيل الفتح عليكم.»
فقطع عبد الرحمن كلامها قائلًا: «ولكن اليهود تجار نبيعهم الأسرى بالمال، فمن أراد من أهل البلاد أن يفتدي أسيره افتداه منهم بالمال.»
قالت: «ولكن بعض اليهود يبتاعون الأسرى للتنكيل بهم تشفيًا مما كان النصارى يسومونهم إياه من قبل، وكثيرًا ما كان اليهود يبتاعون الأسرى النصارى ويذبحونهم فإذا تجنبت هذا الأمر كان خيرًا على كل حال.»