الآنية
ولم تتم سالمة حديثها حتى سمعوا قرقعة وضوضاء خارج الفسطاط، ثم دخل أحد الغلمان وهو يقول: «الأمير هانئ بالباب، ومعه أناس يحملون أكياسًا.»
ثم دخل هانئ ووراءه عبيد يحملون أكياسًا وأدوات وهو يقول: «هذه أدوات الكنيسة لم نستطع جمعها إلا بشق الأنفس؛ لأنها كانت قد وزعت بين أصحاب الغنائم.» قال ذلك وأمر الرجال أن يفرغوا ما في الأكياس بين يدي الأمير، ولم تمضِ لحظة حتى امتلأ البساط بالشمعدانات والصلبان والكئوس وفيها الفضة والذهب، فضلًا عن أنواع من الملاعق والصحون والصور المذهبة والمفضضة وقطع من الذهب اقتلعوها من التماثيل الكبيرة التي لم يستطيعوا حملها من جدران الهيكل وأعمدته.
فلما خرج الحمالون ولم يبقَ في الخيمة إلا عبد الرحمن وهانئ وسالمة، التفت عبد الرحمن إلى سالمة وقال لها: «هذه هي الآنية، فماذا نفعل بها؟»
قالت: «أرى أن نرسلها إلى أسقف الكنيسة في بوردو مع رجل يخبره أن نهب هذه الكنيسة قد وقع بغير إرادتك ثم يعتذر له عن ذلك ويخبره بأن الأسرى باقون إلى مساء الغد في هذا المعسكر فمن أراد أن يفتدي أسيره افتداه ولا حرج عليه، وبعد رجوع الرسول أذهب أنا إلى الأسقف، فأغتنم فرصة إعجابه برفق المسلمين وعدلهم وأطلب إليه أن يحاول إقناع أهل البلاد الأخرى الواقعة في طريقكم إلى نهر لوار بالمراسلة بأن المسلمين أرفق بهم من الإفرنج، وأنهم سيكونون تحت حكم المسلمين أحرارًا في ديانتهم وعاداتهم وحكومتهم وقضائهم وسائر أحوالهم كما كان أهل الأندلس في أول الفتح.»
فلم يستطع عبد الرحمن أن يزيد على رأي سالمة كلمة واحدة ولم يزدد إلا إعجابًا بسداد رأيها وسعة اطلاعها فقال لها: «فليكن ما تقولين، ويجب أن يبقى كل ما دار بيننا مكتومًا عن كل إنسان غيرنا، لئلا يفسدوا سعينا.» والتفت إلى هانئ وقال له: «اعهد إلى رجل من خاصتك تثق برجاحة تفكيره وحسن أسلوبه أن يوصل هذه الآنية إلى الأسقف ويبلغه هذه الرسالة.»
ولم يكن هانئ أقل إعجابًا بسالمة من عبد الرحمن، فلما سمع رأيها استحسنه، وزاد احترامه لها وحبه لابنتها، وبادر في الحال إلى رجال حمَّلهم الآنية وخرج لإنجاز تلك المهمة.
ثم نهضت سالمة والتمست من عبد الرحمن أن يرسلها إلى مقر ابنتها لتبيت هناك إلى الصباح، ثم تخرج لمهمتها فأراد عبد الرحمن المبالغة في إكرامها فطلب هانئًا مرة أخرى وقال: «ادع لي رجلًا من خاصتك يصحب سالمة إلى خباء النساء حيث تقيم ابنتها.»
فاعتبر هانئ تلك المهمة فرصة يجب اغتنامها فقال: «ومثل هذه السيدة الفاضلة لا يليق لخدمتها غير الأمراء إني ذاهب إلى قرب ذلك الخباء، ولذلك فإني سأصحبها إليه.»
فاستحسن عبد الرحمن شعور هانئ في احترام سالمة تشجيعًا لها فابتسم وقال: «بورك فيك إنها أهل لأكثر من ذلك.»
فمشت سالمة في أثر هانئ وظل عبد الرحمن وحده وقد بهره ما شاهده في ذلك المساء من الغرائب، وتوسم خيرًا في نجاح حملته وزاد رغبة في تفقد جنده والسهر على جمع كلمته.