دسيسة
أما ميمونة فإنها ذهبت إلى مضجعها بإزاء مضجع سالمة لا يفصل بينهما إلا الجدار، وكانت مضطربة الخاطر لما شاهدته من سالمة، فلقد بدا لها أنها لم تدخل ذلك المعسكر إلا لأمر هام فتظاهرت بالسكون وأصغت لما عساه أن يدور من الحديث بين سالمة وابنتها، فسمعت ما دار بينهما فلما اطلعت على السر أهمها أمره كثيرًا؛ لأنه يحول دون الغرض الذي من أجله رافقت تلك الحملة فباتت وهي تدبر الحيل وتهيئ الشراك.
وقبل أن ينبلج الصباح نهضت ميمونة من فراشها وتزملت بردائها وتظاهرت بالخروج إلى خباء بالقرب من خباء الأمير، وكانت على موعد في كل صباح مع رجل من الجند تزعم أنه كان من غلمانها يوم كانت بمعية لمباجة في أيام المنيذر الإفريقي، فرأت في أثناء خروجها فارسًا قادمًا من المعسكر عرفت من زيه ولون جواده أنه هانئ، فاستغربت قدومه في ذلك الصباح، فلما توارى عن بصرها ذهبت إلى موعدها، فمكثت هناك حتى جاءها الرجل وهو بربري عليه ثياب الجند قصير القامة خفيف الشعر خفيف العضل، في الثلاثين من عمره، وفي عينه حول شديد فإذا نظر إليك يوهمك أنه ينظر إلى رجل على مسافة بعيدة منك، فلما أقبل عليها تبسم وأشار بحاجبيه وبعينه الشاردة أنه في شوق شديد إلى رؤيتها وأنه قتيل هواها.
فابتسمت ميمونة له وأظهرت الدلال وقالت له: «يظهر يا عدلان أنك نسيت سيدتك وتغافلت عن وعدك، فإن الغنائم شغلتك عن ميمونة وظننتها تنسى مثلك.»
فأعجبه ذلك العتاب واستدل من ورائه على ما له من المنزلة عند تلك الحورية ربة الجمال، وقد كان يعلم أن بينه وبينها فارقا كبيرًا، ولكنه كان يطمع في حبها وكان يقنعه من ذلك الحب أن يسمع مثل تلك العبارة، فهو ممن يسمونهم «أذناب العشاق»؛ لأن العشاق ثلاثة: عاشق لا يقنع بغير الحب المتبادل الذي يملأ القلبين، وعويشق يقنعه أن يقدم لمعشوقته باقة من الأزهار أو عقدًا من الجوهر، ويكفيه منها قبول هديته ولا مطمع له فيما وراء ذلك، و«ذنب العشاق» وهمه أن يخدم معشوقته خدمة تروقها، كإيصال كتاب، أو ابتياع بعض حاجات الطعام، أو نحو ذلك، وكان عدلان من النوع الثالث وقد جعله يعشقها ويتفانى في خدمتها، ما كانت تبديه له من التلطف، حتى أطلعته على بعض سرها، ووعدته بالرضا التام حين يتمم لها خدمة وعدها بإتمامها منذ تشتت شملها بقتل المنيذر الإفريقي الذي ذكرناه في غير هذا المكان، فلما سمعها تعاتبه وتستعطفه ابتدرها بالجواب وهو ينظر إلى وجهها الجميل نظر المحب الولهان وقال: «كيف تقولين ذلك يا مولاتي وأنت تعلمين اندفاعي إلى خدمتك منذ أعوام، وأما الغنائم فلا يخفى عليك ما تركه أولئك العرب منها خصوصًا اليوم، فإنهم بعد أن وزعوا الغنائم بيننا عادوا فاسترجعوها وأهانوا الأمير بسطامًا إهانة ليس بعدها إهانة.»
قالت: «الأمير بسطام؟ وكيف تركته يقبل ذلك، ولماذا لم تحرضه على المطالبة بحقه إلى متى هذا الذل؟»
قال: «لقد حرضته ولكن غريمه صعب لا ينال.»
قالت: «ومن هو غريمه؟»
قال: «هو الأمير هانئ نفسه وأظنك رأيته قادمًا على هذا الصباح إلى هذا الخباء.»
قالت: «نعم رأيته ولماذا قدم؟»
قال: «قدم لتلك الفتاة الجميلة التي بعثها الأمير عبد الرحمن إليكم بالأمس فإنها غنيمة الأمير بسطام، وقد أخذها الأمير هانئ رغم أنفه وساعده الأمير عبد الرحمن على ذلك.»
فقالت: «وهل رضيت هي بهذا العربي وفضلته على ذلك الأمير؟»
قال: «يظهر أنها أحبت هانئًا وتعلقت به.»
فأدركت ميمونة أن الحب قد تمكن بين مريم وهانئ وأن هانئًا إنما جاء في ذلك الصباح لمقابلتها، فرأت أن تغتنم تلك الفرصة وتدس الدسائس وتوقع الخصام بين الأميرين فقالت: «وهل رضي بسطام بهذا الذل؟ وكيف يرضى أن تخرج فريسته من بيد يديه ويصبر على الهوان؟ إذا قبل هو ذلك فأنا لا أقبل، هل لك أن تخبره أني سأبذل غاية جهدي لأرجع هذه الفتاة إليه؟ قل له ذلك دون أن تشعره بما دار بيني وبينك، هل فهمت يا عدلان؟ إنه يسوءني أن يستأثر هؤلاء العرب بالطيبات ويحملونكم الأثقال والأخطار فتفتحون لهم الحصون وتجمعون لهم الغنائم، ثم لا تنالون غير التعب والشقاء، ولكن لا بأس، سوف ترى مني ما يسرك.» ثم رأت وهي تخاطبه فارسًا خارجًا من خباء الأمير عرفت من سواد ثيابه أنها سالمة تنطلق في مهمتها، وثبت لها ذلك من مسير حسان في ركابها وهو يعدو خلفها، فعلمت أن هانئًا سيظفر بعد ذهاب سالمة بلقاء مريم فقطعت ميمونة حديثها مع عدلان بقولها: «اذهب أنت الآن في حراسة الله.» قالت ذلك وتحولت نحو الخباء على عجل، وظل هو واقفًا ينظر إلى قامتها ويتمتع بمنظر ذلك الشعر الجميل حتى إذا كادت تتوارى التفتت نحوه وابتسمت، فأحس كأنها ملكته الأرض وما عليها وخفق قلبه ابتهاجًا، وعاد.
أما هي فلما أيقنت بوقوع التنافر بين هانئ وبسطام، عادت إلى التفكير في وسيلة للإيقاع بين هانئ وعبد الرحمن، ليتم لها إفساد أمر ذلك الجيش الكبير لعلمها أن فوزه إنما يقوم على اتحاد هذين الأميرين، وكانت قد علمت أن عبد الرحمن إنما أرسل مريم إلى الخباء لتكون في مأمن من سواه، وعلمت أن «حب» هانئ لمريم يسوء عبد الرحمن، فعزمت على إشعال نيران الغيرة بينهما، فسارت توًّا إلى غرفة مريم فلم تجدها وبحثت عن القهرمانة فقيل لها إنها في غرفتها، فتحقق ظنها فعادت إلى غرفتها مسرعة وقد خطرت لها حيلة ظنت أنها تنال بها مأربها، فنادت غلامًا من غلمان الخباء كان في الأصل من غلمان المنيذر الإفريقي، وأخذ في جملة من أخذ من الأسرى، وأصله من الإفرنج الذين أتوا مع لمباجة بنت أود يوم زواجها بالمنيذر، ولما أخذت ميمونة ظل هو في جملة الخدم، وقد استبقته هي لخدمتها والاستعانة به عند الحاجة، فلما جاء الغلام قالت له: «أسرع يا داود إلى الأمير عبد الرحمن، هل لك أجنحة لتطير بها إليه؟»
قال: «نعم يا مولاتي.»
قالت: «طِر إليه على عجل، وقل له إن ميمونة تقرئك السلام وتقول لك بادر إليها الآن لأمر هامٍّ تريد أن تطلعك عليه في هذه الساعة.»
فقال: «حبًّا وكرامة.» وتحول وسار وهو يثب كالغزال النافر متجهًا نحو المعسكر، وجلست ميمونة في مكان ترى منه كل من يخرج من الخباء.