لقاء الحبيبين
أما هانئ فإنه جاء إلى الخباء مبكرًا — كما رأيت — لشدة شوقه إلى لقاء مريم، ولا نظنه قد نام كثيرًا في تلك الليلة، ولما وصل إلى غرفة القهرمانة استقبلته واستمهلته ريثما تنصرف سالمة، وسارت إلى سالمة حتى تهيأت للخروج فودعتها فأوصتها سالمة بابنتها خيرًا وركبت وسار حسان في ركابها، فعادت القهرمانة وقد سرها ألا تكون ميمونة في الخباء لئلا تطلع على سر تلك المقابلة، فلما مضت سالمة صحبت مريم إلى غرفتها فمشت معها وهي تفكر في هانئ وبعده عنها، فلما دخلت الغرفة ورأته هناك بغتت وتصاعد الدم إلى وجنتيها، وغلب عليها الحياء فأرسلت خمارها على عينيها، وأطرقت وقد صبغ الحياء وجهها فأضفى عليها ذلك مزيدًا من الجمال والجاذبية في عيني هانئ، أما هو فقد كان أثناء انتظاره في الغرفة على مثل الجمر، وقد خيل إليه أن الساعة التي مضت في أثناء انتظارها بضعة شهور، فلما سمع وسوسة الخلاخل والدمالج وراء جدران الغرفة علم أن القهرمانة قادمة، ثم ما لبث أن رآها تدخل ومريم في أثرها، فلما رأى اصطباغ وجه مريم بالحياء زاد هيامًا بها فنهض لاستقبالها، فسمع القهرمانة تقول وهي تتظاهر بأن وجوده كان هناك اتفاقًا: «ما الذي جاء بك في هذا الصباح يا حضرة الأمير؟»
قال: «لقد جئت لأرى وجهك يا خالة.»
فضحكت القهرمانة وقالت: «لا أظن أن وجهي تعجبك تجعداته، وكأني قد علمت بقدومك فأتيت إليك بهذا الوجه، فهل تعرفه؟»
فابتسم هانئ وقد غلب عليه الغرام وقال: «لقد عرفته وكلفت به ولكن هل هو يعرفني؟ لست أدري.»
وكانت مريم مطرقة، فلما سمعت كلامه رفعت بصرها ونظرت إليه — بعينين قد أذبلهما الغرام وتلألأ فيهما ماء الحب — نظرة تغني عن خطاب، فلم يتمالك هانئ عند ذلك أن قال: «فهمت الجواب.»
فضحكت القهرمانة وأمسكت بيد مريم وأجلستها وقالت وهي تحاول الجلوس: «ما أسرع ما فهمت جوابها وهي لم تتكلم.»
فجلس هانئ وهو يلتف بعباءته ويصلح عمامته وكان قد أبدلها بالخوذة في ذلك الصباح وقال: «لقد دلني قلبي يا خالة.»
ثم التفت إلى مريم وقال: «لا تخافي يا مريم، إنني لم آت لأزعجك وإنما جئت لأتحقق مما حدثتني نفسي به، حتى إذا صدق ظني وخدمني حظي وقفت نفسي لخدمتك وجعلتك أسعد الناس، إلا إذا كان هذا الخبر يسوءك.»
فتنهدت مريم تسكينًا لما جاش في صدرها من الخفقان مما لم تعهده من قبل، وهمت بالكلام فمنعها الحياء، وكانت لا تبالي إن لقيت الرجال في ساحة الوغى، فكيف تلعثم لسانها بين يدي رجل يتمنى رضاها ويتوقع كلمة منها ليتغنى بها ويجعلها تعويذة له ولكن هو الحب يذل النفوس ويلعثم ألسنة الفصحاء، وظهر من خلال شفتي مريم مع ذلك أنها تكتم أمرًا تود التصريح به لولا الحياء، فأدرك هانئ ذلك فيها فتوجه بكليته نحوها وقال وقد أخذ الهيام منه مأخذًا عظيمًا: «قولي، يا مريم، لا تخافي ولا تكتمي عني شيئًا فإن خالتي القهرمانة لا يُستحى منها، بل هي خزانة أسرارنا، قولي هل تحبينني؟»
فالتفتت إليه وتجلدت وقالت: «وما الفائدة من الحب إذا لم يكن متبادلا، وأنتم معشر الأمراء قد تعودتم اقتناء النساء بالعشرات، والحب لا يكون صحيحًا إلا إذا كان بين اثنين ليس معهما ثالث.»
فبغت هانئ لهذا التعريض وهو لا يرى له محلًا وقال: «لست من هؤلاء يا مريم، وهذه الخالة تعلم أني بلغت هذه السن ولم أتخذ زوجة ولا جارية ولا سرية، اسأليها تنبئك فإنها مطلعة على أحوال سائر الأمراء في هذا الجند، فإن لكل واحد منهم خباء لنسائه وجواريه، وأما أنا فلا خباء لي ولا أحببت امرأة ولا فتاة ولم يكن يخطر ذلك ببالي قبل أن رأيتك في صباح الأمس فعزمت على أن تكوني نصيبي في هذه الدنيا، وتأكيدًا لذلك فإني أعاهدك من هذه الساعة على أني لا أميل إلى سواك فهل تعاهدينني أنت أيضًا؟»
فأبرقت أسارير مريم وأشرق وجهها، وتجلت في عينيها وحول فمها ابتسامة طار عقل هانئ لها، وخفق قلبه سرورًا وقال: «ولكن لي شرطًا واحدًا عليك وعلى نفسي وهو أني لن أتمم شيئًا قبل الفراغ من هذه الحرب فإذا عدنا منها فائزين، ونحن فائزون، بإذن الله، كان ما نتمناه فهل تعاهدينني على ذلك؟»
فقالت وهي مطرقة حياء: «وذلك هو الشرط الذي أشرطه أنا أيضًا؛ لأنني إذا فزت بك، أكون عند ذلك قد نلت السعادتين.»
فقال: «فلنتعاهد إذن على هذا الشرط.» ومد يده نحوها ببطء وهي ترتجف من شدة التأثر، فأمسكها بيده وضغط عليها فأحس كلاهما بتيار كهربائي ارتعدت له فرائصهما، ثم نهض هانئ وهو يقول: «لا بد لي من الذهاب الساعة إلى المعسكر لنتأهب للقاء العدو، وأعدك أني سأبلو في ساحة القتال بلاء الأبطال لعلمي أن ذلك يسرك فادعي لي بالنصر.»
ثم مد يده إلى كمه وأخرج قارورة تفوح منها رائحة الطيب قوية، وقدمها إلى مريم وهو يقول: «وهذه قارورة من طيب خاص ليس مثلها عند أحد في هذا الخباء تطيبي بها وحدك، حتى إذا أتيت لزيارتك تنسمت ريحك قبل وصولي إليك فأستدل على وجودك قبل أن أراك، وأنت أيضًا كلما شممت رائحة هذا الطيب تتذكرين قتيل هواك.» قال ذلك وعيناه تتلألآن من شدة الهيام، ونظر إليها نظر المحب الولهان.
فمدت يدها وتناولت القارورة وهي تبتسم، ثم تذكرت فراقه لها في تلك الساعة فانقبضت نفسها، فالتفتت نحو السماء وترقرقت في عينيها العبرات.
وكانت القهرمانة في أثناء ذلك الحديث قد استغرقت في النوم وهي جالسة؛ لأنه لا يهمها في هذا الاجتماع إلا ما نالته من التحف وما ترجوه من الهدايا المتواصلة، وبينما هي غارقة في أحلامها علت الضوضاء خارج الخباء فانتبهت فسمعت قرقعة اللجم ودبدبة الخيل فبغتت وبغت هانئ ومريم، وقبل أن تنهض سالمة سمعت أحد الغلمان يصيح في الخارج: «أين السيدة القهرمانة؟»
فنهضت القهرمانة وصاحت: «من يناديني؟» وخرجت فاستقبلها أحد الغلمان وهو يقول: «إن الأمير عبد الرحمن يدعوك إليه.»
فقالت وقد علتها الدهشة: «وأين هو؟» وهرولت نحو القاعة، فقال الغلام: «هو ينتظرك في القاعة.» فعادت إلى هانئ وقالت: «أسرع يا مولاي إلى جوادك وامضِ قبل أن يراك الأمير هنا فلربما شك في أمرك.»
فأكبر هانئ أن يخرج خروج الهارب فتجلد، وقال: «اذهبي أنت إليه ولا تخافي فإني خارج على مهل.»