البغتة
فدخلت القهرمانة وقد أرادت أن ترسل مريم من باب آخر يؤدي إلى غرفتها وتسير هي توًّا إلى القاعة لمقابلة الأمير عبد الرحمن.
وخرج هانئ من الباب الخارجي وهو رابط الجأش حتى وصل إلى جواده، وهم بأن يركبه فلقي بجانب الجواد رجلًا من ملازمي الأمير عبد الرحمن وقد أمسك بشكيمته، فلما دنا هانئ منه قال له: «إن الأمير يطلب إليك أن توافيَه إلى خيمته في المعسكر فإنه عائد إليها على عجل.»
فقال: «ومن أنبأه أني هنا؟»
قال: «عرف ذلك من جوادك.»
أما القهرمانة فلم تكد تخرج من حجرتها ومريم معها حتى لقيها عبد الرحمن، وكانت مريم قد ازدادت بتلك البغتة احمرارًا وتجلت دلائل الحب في عينيها مع ما يغشاهما من الدمع، فلما رأت الأمير عبد الرحمن استردت جأشها ووقفت للسلام عليه.
أما هو فحالما رآها، تذكر والدتها فخاطبها أولًا ولم يلتفت إلى القهرمانة وقال: «مريم أين والدتك؟ هل سافرت؟»
قالت: «نعم يا مولاي سافرت في الصباح الباكر.» قالت ذلك بلثغتها المعهودة ولم يكن عبد الرحمن قد سمعها تتكلم بعد، فأعجبته تلك اللثغة، وكان لفرط ذكائه وصدق فراسته قد رأى على وجهها آثار البغتة وتذكر أنه رأى جواد هانئ بباب القهرمانة من الخارج فأدرك أن هانئًا كان هناك معها، فتظاهر عبد الرحمن بعدم المبالاة، وليثبت عدم مبالاته خاطب القهرمانة ببرود وسذاجة قائلًا: «وهل رجع الأمير هانئ؟»
فلما سمعت القهرمانة سؤاله لم تدر بماذا تجيبه وكاد يرتج عليها لو لم يتدارك الأمر هو بقوله: «ولكن لا بأس من ذهابه فإني سألقاه بعد رجوعي.» ثم مشى نحو مريم وهو يخاطب القهرمانة قائلًا: «قد أوصيتك يا خالة بإكرام الضيفة، وأعيد التوصية الآن بأن تبالغي في رعايتها وإكرامها ولا تمنعي عنها شيئًا ولا تدعيها تستوحش في هذا الخباء فإنها أعز نسائه عندي.»
فانبسطت نفس القهرمانة لذلك واطمأن بالها، وتبادر إلى ذهنها أن عبد الرحمن غافل عما حدث من أمر هانئ ومريم وقالت: «إني فاعلة حسب أمر مولاي والحقيقة أن مريم لا يراها أحد إلا أحبها وأكرمها.»
فقطع عبد الرحمن كلامها قائلًا: «أين ميمونة؟ هل هي في غرفتها؟»
قالت: «أظنها هناك.» ومشت لتبحث عنها.
فقال لها عبد الرحمن: «امكثي هنا مع مريم أو امضِ بها إلى حيث تشائين، وأنا ذاهب إلى ميمونة فإني أعرف مكانها.»
وكانت ميمونة قد رأت الأمير عبد الرحمن عند وصوله إلى هناك، وعلمت أنه رأى جواد هانئ ورأته، يخاطب أحد غلمانه ويشير إلى ذلك الجواد، فدخلت وجعلت تتنسم ما عساه أن يكون من أمره بعد أن يرى القهرمانة ومريم ومعهما هانئ، فشعرت أنه لقيهما خارجين من تلك الحجرة، وسمعت ما دار بينه وبينهما فظنته لم يلحظ اجتماعهما فعزمت على التصريح بذلك.
أما عبد الرحمن فمشى يلتمس حجرة ميمونة والخدم يتناثرون بين يديه تهيبًا، أو يقفون له وقارًا، حتى اقترب من باب الحجرة فتظاهرت ميمونة أنها قلقت لإبطائه في الوصول إليها، فأسرعت إلى الباب وهي تبدو كأنها كانت في انتظاره على مثل الجمر، فلما أقبل حيَّتْه وتأدبت وعيناها تنظران إليه نظر المحب العاشق بلا تصنع مع أنها غير عاشقة، وإنما كان ذلك منظر عينيها لما فيهما من اللمعان مع ما تتكلفه من إظهار الوجد بالابتسام والإطراق فينخدع الناظر إليها ويحسبها متفانية في حبه، ولا سيما إذا كان هو يحبها، أما عبد الرحمن فكان يستلطف ميمونة كثيرًا ويحب قربها، ولكنه كان ينظر إليها نظره إلى بعض جواريه، وكان من جهة أخرى قد عاهد نفسه على ألا يقرب النساء حتى يفرغ من تلك الحرب ويقطع نهر لوار، فضلًا عن اشتغال خاطره بمهام الفتح عن مجالسة النساء ومسامرتهن، ولذلك قلما كان يأتي إلى الخباء، وإذا أتاه خص ميمونة بلطفه ومداعبته وذلك لغرض في نفسه لم يكاشف به أحدًا، وربما كانت قد أدركت غرضه ثم تجاهلته، أو أنها تظاهرت بأنها تفعل ما يريده هو وتبتغي من ورائه مأربًا لو تصوره عبد الرحمن لعجل بها إلى الفناء.