الاطمئنان
أما عبد الرحمن وهانئ، فإنهما ركبا وسارا نحو المعسكر وحولهما الفرسان في موكب، وكل منهما يفكر في جهة، ومرجع التفكير إلى مريم فكان هانئ يتذكر ما دار بينه وبينها، وما آنسه من مجاملة عبد الرحمن ولطفه على حين أنه كان يتوقع امتعاضه فإذا تذكر ذلك انشرح صدره؛ لأنه كان يخشى إذا بدا من عبد الرحمن برود أن يئول ذلك إلى نفور ضار وكان عبد الرحمن يفكر في سالمة وما دار بينه وبينها في أمر مريم وتلميحها بأنها ستكون له بعد الفراغ من تلك الحرب لسر لم تصرح له به، وتذكر استلطافه مريم وتصور ما هي عليه من الجمال والهيبة، ثم ما ظهر له من الحب المتبادل بينها وبين هانئ فلما بلغت تصوراته إلى ذلك الحد شعر بغيرة شديدة، ولكنه تذكر ما هم فيه من الحرب وشدة احتياجه إلى هانئ حتى إن النجاح يتوقف على اتفاقهما، وعلم أن ذلك الاتفاق لا يتم إلا بارتياح هانئ، وارتياحه لا يكون إلا بتيسير ظفره بمريم فلما تمثل له ذلك، عاد إلى عقله وسعة صدره، فهان عليه إرضاء هانئ وخشي أن يكون في سكوته في أثناء الطريق باب للشك، ففتح الحديث قائلًا: «ألم تحمد الله على انتصارنا في هذه الحرب يا هانئ؟»
قال: «لقد حمدته كثيرًا على ذلك، والفضل فيه يرجع إلى بسالة الأمير عبد الرحمن وتدبيره.»
فقال الأمير عبد الرحمن: «بل الفضل فيه للأمير هانئ قائد فرساننا بل أرى الفضل فيه لما وفقنا إليه من الوفاق المتبادل، وأرجو أن يبقى ذلك إلى نهاية هذه الحرب.»
قال: «وأنا أرجو ذلك أيضًا، وإذا تم لنا الفتح كان فيه الفخر للعرب كافة؛ لأننا فتحنا لهم بلادًا واسعة يحكمون أهلها ويجبون خراجها وينشرون الإسلام فيها.»
فقال الأمير عبد الرحمن: «وأظن سرورك بفتح بوردو يعادل سرورنا جميعًا بما فتحناه وسنفتحه من البلاد؟» قال ذلك وابتسم.
فأدرك هانئ تلميحه إلى مريم فضحك وقد انشرح صدره، وقال: «لا أستطيع إنكار ذلك أيها الأمير؛ لأنه يبدو في كل حركة من حركاتي، وأرجو أن يكون أخي مسرورًا معي.»
قال: «إني أسر بكل ما يسرك، وثق أني عون لك في كل ما تريده، ولكنك تعلم ما عاهدت نفسي عليه منذ ركبت هذا المركب الخشن.»
فلم يفهم هانئ مراده، فقال: «وأي عهد تعني؟»
قال: «إني عاهدت الله ألا أقرب النساء قبل أن أفرغ من هذه الحروب أو أن نقطع نهر لوار على الأقل فهل أنت على هذا الرأي؟»
ففهم هانئ مراده، فقال: «نعم إني أعاهد الله على هذا أيضًا، وقد كان اهتمامي بالنساء كما تعلم ضعيفًا فلم أتزوج امرأة ولا اقتنيت جارية ولولا وقوع هذه الفتاة من نفسي موقعًا عظيمًا ما غيرت رأيي، أما الآن، فأعترف لك أني قد تعلقت بمريم وهي كما ترى أهل لذلك.»
فقطع عبد الرحمن كلامه قائلًا: «إنها من خيرة النساء جمالًا، وإذا وفقنا إلى ما نرجوه من النصر كنت أول من يسر بظفرك بها، غير أني أرجو أن يبقى ذلك مكتومًا عن كل إنسان لأسباب تعلم بعضها وتجهل البعض الآخر، ولا تكلفني التصريح بأكثر من ذلك.»
فأحس هانئ من تلك الساعة بثقل أزيح عن صدره وارتاح باله، وإن كانت إشارة عبد الرحمن إلى الأسباب التي لا يعلمها قد شغلت خاطره قليلًا، على أنه شعر بميل شديد إلى مكاشفة مريم بما دار بشأنها مع عبد الرحمن، وذلك طبيعي في المحبين، فإنهم يتلذذون بمكاشفة بعضهم بعضًا بأخبار الناس فكيف بما يتعلق بهم ولا سيما ما كان مرجعه إلى تحقيق أمانيهم، وعلى الأخص إذا اؤتمن أحدهم على سر وطلب إليه كتمانه، فإنه يزداد ميلًا إلى مشاركة حبيبه الاطلاع عليه، كأنه يعد ذلك إكرامًا له بشيء ثمين اؤتمن هو عليه.
ثم عاد الأميران إلى السكوت مدة، والركب ماش، حتى دخلوا المعسكر وكان الجند قد فرغوا من اقتسام الغنائم وهم فرحون بما نالوه منها وخصوصًا البرابرة لما علمت من مطامعهم وظل الأميران سائرين حتى وصلا خيمة الأمير عبد الرحمن فدخلا، ثم صفق عبد الرحمن فجاءه أحد الغلمان فقال له: «ادع الأمراء إليَّ هنا الساعة.»
فلما خرج الغلام التفت عبد الرحمن إلى هانئ، وقال له: «لقد علمت من أخبار الجواسيس وغيرهم أن طاغية أكتانيا الكونت أود معسكر بجنده في مضيق دردون على بضع ساعات من هذا المكان، فينبغي لنا أن نبادر بالهجوم قبل أن يتأهبوا للدفاع فإذا غلبناهم وقتلنا أميرهم ذهب عنا نصف العناء في هذا الفتح أو هو العناء كله، ولم يبقَ من يقف في سبيلها إلى نهر لوار فماذا ترى؟»
قال هانئ: «أرى أن نبادر إلى الحرب، وروح الجند المعنوية ما تزال عالية من أثر النصر.»
قال عبد الرحمن: «متى حضر الأمراء استشرناهم، ولا أظنهم إلا موافقين على الزحف، فنرحل برجالنا ونترك الأخبية في مكانها وعندها بعض الحامية والغنائم فإذا هزمنا الإفرنج بإذن الله حملنا نساءنا وغنائمنا، وسرنا إلى تورس على نهر لوار.»
وبعد قليل جاء الأمراء وهم بضعة عشر أميرًا، وفيهم العربي والبربري والشامي والمصري والنبطي وغيرهم، وفي جملتهم الأمير بسطام، فعرض عبد الرحمن عليهم رأيه وساعده هانئ على تنفيذه فوافقوا جميعًا على الرحيل في صباح الغد على أن يتركوا النساء في الأخبية حيث أقيمت، فلما أجمعوا على ذلك، التفت عبد الرحمن إليهم وقال لهم: «أنتم تعلمون أننا سائرون لمحاربة هؤلاء الإفرنج في معسكرهم، والمسافة بيننا قريبة وهم متحصنون في جبالهم فينبغي لنا أن نسير إليهم خفافًا، ولا يخفى عليكم ما أصابه رجالنا من الغنائم في أثناء الفتوح التي وفقنا إليها منذ خروجنا من الأندلس وهي ثقيلة، حتى لقد ثقل على الرجل حمل غنائمه وحدها بلا حرب فكيف إذا اضطر إلى الهجوم والركض، فالرأي على ما أرى أن يتركوا غنائمهم في هذا المعسكر بقرب الأخبية فتبقى هناك هي والنساء ونجعل معها حامية من رجالنا فإذا بلغنا من عدونا ما نريده أضفنا إليها ما نغتنمه منهم.» قال عبد الرحمن ذلك وهو يتوقع معارضة بعضهم لعلمه بحرص أولئك القوم على حطام الدنيا، وفيهم من لم يأت إلى تلك الحرب إلا رغبة في الأموال فاستدرك هانئ ما خشيه عبد الرحمن قائلًا: «إن الأمير مصيب في رأيه ولا أظنكم إلا موافقين عليه؛ لأننا نخشى إذا جاهد رجالنا وهم مثقلون بالغنائم أن يعجزهم حملها فينوءون تحت أثقالها، ولا يقاتلون كما ينبغي في ساحة الوغى ولا يخفى عليكم ما يترتب على ذلك من الفشل.»
وكان عبد الرحمن يخشى الاعتراض خصوصًا من الأمير بسطام لحرص رجاله على الأموال لسبب تقدم ذكره، وكان عبد الرحمن في أثناء كلام هانئ يتفرس في وجوه الأمراء فوجد التردد ظاهرًا وخاصة في وجه بسطام، فاستأنف الكلام قائلًا: «والذي أراه أن نعهد بحراسة تلك الغنائم إلى الأمير بسطام ومن يختارهم من رجاله، ومعهم جماعة من رجال سائر الأمراء.»
•••
فوقع ذلك الرأي موقع الاستحسان عند الجميع، فوافقوا عليه وخرجوا لتنفيذه وليأمروا رجالهم بالتأهب للرحيل صباح الغد.
فذهب هانئ إلى خيمته، ولم ينم تلك الليلة لما خالج أفكاره من الهواجس بمريم على أثر ما سمعه من عبد الرحمن، حتى حدثته نفسه أن يطير إليها في ذلك الليل ويكاشفها بما دار بينه وبين عبد الرحمن بشأنها، ويخبرها بعزمهم على الرحيل إلى محاربة الإفرنج، ويصبرها حتى ساعة الرجوع، وقد زاده رغبة في الذهاب إليها أنه فارقها ولم يتمكن من وداعها كما يريد، ولكنه تذكر أهمية وجوده في الصباح هناك وخشي أن يغضب عبد الرحمن فرجع عن عزمه.