المنزل الخالي
أما مريم، فإنها خرجت في ذلك الصباح مع ميمونة — كما تقدم — وقد ركبت على ذلك الجواد الأدهم، وتزملت بالعباءة، وعلقت الخوذة بالسرج، وساقت الجواد في أثر الرسول وميمونة على جواد آخر بجانبها وهي تنظر إلى مريم على الجواد، منتصبة القامة كأفرس الفرسان، وكانت ميمونة تظهر دهشتها لذلك الطلب العاجل، وأنها إنما رافقتها لحمايتها مما قد يكون من بواعث الخطر على أثر ذلك، أما مريم فكانت تستحث جوادها وأفكارها تائهة في عالم التصورات، وصورة هانئ تتخلل كل خيال يمر في ذهنها.
ساروا ساعة ثم أدركوا المعسكر القديم إلى يسارهم عن بعد، وكانت مريم تحسب أنها ستذهب إلى ذلك المعسكر؛ لأنها لم تكن تعلم بانتقال الجند إلى دردون فلما رأت الخيام قليلة سألت الرسول عن مقر الجند وعن المكان الذي يقصدونه، فقال: «إن الجند انتقلوا إلى دردون لملاقاة الإفرنج هناك، وسيعودون إلى هنا وأما نحن فإننا سائرون إلى مكان على مقربة من دردون، أمرني مولاي والأمير أن أوصلك إليه، فإما أن يكون هو في انتظارك هناك أو أنه يأتي بعد وصولك.» فصدقته مريم وامتلأت نفسها شوقًا إلى لقاء الحبيب، وساروا على تلك الصورة بضع ساعات، وقد تركوا بوردو إلى يسارهم أيضًا حتى وصلوا إلى بناء منفرد قد تداعت جدران سوره، فدخل الرسول أمامهم من باب السور إلى حديقة قد غشيها الإهمال، ولا يخفى على المتأمل فيها أنها من مساكن أهل اليسار وأنهم غادروها منذ بضعة أسابيع فترجلتا ودخلتا الحديقة، فتصدت ميمونة للاعتراض على الرسول غيرة على مريم، فقالت له: «إلى أين أنت سائر بنا؟ إننا على مقربة من دردون على ما أظن وما هذا البيت الذي أدخلتنا فيه؟ احذر أن تكون مخطئًا.»
فوقف الرجل متأدبًا، وقال: «لست مخطئًا يا مولاتي، إننا في قصر أحد أمراء أكيتانيا وقد هجره أهله فرارًا من جند المسلمين، وفي هذه المزارع قصور كثيرة هجرها أهلها وبقيت غنيمة للمسلمين.»
فقالت: «وأين الأمير هانئ؟»
قال: «يبدو أنه لم يأت بعد؛ لأني لم أر أثرًا يدل على مجيئه، ولكنه لا يلبث أن يأتي سريعًا.» قال ذلك ومشى بهما حتى أدخلهما البيت من باب كبير كان مفتوحًا، وليس في المنزل إلا بعض المقاعد أو الكراسي الضخمة مما لا يستطاع حمله في أثناء الفرار، وقد استولى السكون على المكان إلا ما كان يتردد من صدى خطواتهم وصهيل الجوادين أما مريم، فلما وصلت ولم تجد هانئًا ولا أثرًا يدل عليه بدأت تشك فيما احتوته تلك الرسالة، ولكنها سكتت لترى ماذا يكون، وألقت معظم الهم على ميمونة؛ لأنها أكبر منها سنًا وأوسع علمًا بتلك البلاد وبأحوال ذلك الجند، ولم تكن ميمونة تجهل ما يخالج أفكار مريم من هذا القبيل، فكانت تتظاهر بالدهشة أيضًا، وتسأل الرسول مثل أسئلة مريم، حتى وصلوا إلى قاعة ليس فيها إلا مقعدان قديمان فجلست ميمونة ودعت مريم للجلوس فجلست وهي تتفرس في المكان وتنظر إلى ميمونة، وميمونة تشاركها في الارتباك قضتا برهة وهما ساكتتان، ومريم تتوقع قدوم هانئ وقد شاعت عيناها وهي تنظر إلى الخارج من نافذة تطل على الحديقة، وميمونة بجانبها والمكان هادئ والخادم الذي أوصلهما لم يعد يظهر، فتظاهرت ميمونة بالخوف، وقالت: «ويلاه أين نحن؟ ما الذي جرى لنا؟ أين ذلك الرسول؟ يا ليتنا اصطحبنا بعض الصقالبة من خصيان الخباء.» ثم صفقت كأنها تستقدم الرجل، فلم تسمع جوابًا غير الصدى.
أما مريم فلما رأت ميمونة خائفة، خافت هي أيضًا ووقفت وقد ظهر الاهتمام في وجهها، وقالت: «هل خدعونا؟ أين ذلك الرجل؟ كيف يتركنا هنا ويذهب؟ إلى أين ذهب؟» وكانت الشمس قد أدركت الأصيل ولم يتناولا طعامًا من الصباح.