المكيدة
وبينما هما كذلك إذ سمعتا صوت صهيل وقرقعة لجام فالتفتت مريم نحو الباب فرأت فارسًا وفي ركابه رجلان ملثمان، وهو يركض جواده ركضًا عنيفًا حتى وصل إلى باب البستان فترجل فظنت مريم لأول وهلة أنه هانئ فخفق قلبها، ولم تتمالك عن الوثوب نحو الحديقة، ولم تبال باختلاف ملابس ذلك الفارس وجواده عن لباس هانئ وجواده لاعتقادها أنه أرسل إليها العباءة والجواد وقد جاء متنكرًا، ولكنها لم تكد تفكر في ذلك حتى تطلعت إلى القادم فوجدته رجلًا بدينًا يترنح في مشيته، وسيفه يجر إلى جانبه وعباءته مسترخية وراءه، ولا تسل عن اضطرابها حينما عرفت أنه بسطام، فسيطرت عليها رعدة، واصطكت ركبتاها، وكاد الدم يجمد في عروقها، والتفتت إلى ميمونة فرأتها تظهر البغتة وقد تصدرت لمقابلة ذلك القادم بالنيابة عن مريم، فلما وصل بسطام استقبلته ميمونة وهي تقول: «ما الذي تريده أيها الأمير؟»
فأجابها وهو يلهث من التعب والرجلان يمشيان وراءه: «وما الذي يعنيك من هذا الأمر؟»
قالت: «ليس في هذا المكان رجال، ولا أحد يهمكم أمره، فلا حاجة إلى دخولكم إليه.»
قال: «ونحن إنما جئنا لأجل النساء أليست مريم النصرانية هنا؟» قال ذلك وهو يضحك، ومد يده إلى وجه مريم فنفرت وتباعدت، فأمسكت ميمونة بيد بسطام وقالت: «لا تفعل أيها الأمير ما لا يليق بالأمراء واعلم أنك إذا مسستها عرضت نفسك لغضب أمير جند المسلمين.»
فصاح بسطام فيها صيحة شديدة، وقال: «من أقامك ناصحًا أو نذيرًا؟ وما هو شأنك؟ إني لا أخاطبك.» قال ذلك وحول وجهه ومشى نحو مريم، فبالغت ميمونة في ممانعته وقبضت على زنده فتخلص منها بعنف، فوقعت على الأرض، فالتفت إلى الرجلين وقال: «قيدا هذه المرأة بيديها ورجليها واحبساها في هذه الغرفة، واقفلا الباب عليها.»
ولم يتم قوله حتى انقض الرجلان على ميمونة بالأمراس، وقيدا يديها ورجليها وهي تصيح وتستغيث وتحاول التخلص، ومريم تهم بإنقاذها وبسطام يمنعها بدون أن يمسها بيده، وهو يقول لها: «لا تخافي يا جميلة، إننا لن نصيبها بسوء وإنما أردنا إيقافها عند حدها.» فلما فرغا من تقييدها، جرها الرجلان نحو تلك الغرفة فالتفتت نحو بسطام وهي تقول: «لا بأس عليَّ مما فعلتموه بي، ولكنني أتوسل إليكم ألا تمسوا هذه الفتاة بسوء.»
ثم دخل الرجلان بميمونة إلى بعض حجرات ذلك البيت وأغلقا الباب، فلما خلوا هناك تركاها وشأنها فقالت بصوت خافت: «من هو عدلان منكما؟»
فتقدم أحدهما وأزاح اللثام عن وجهه، فبانت ملامحه ونظر إليها بعينه الحولاء نظر المحب الولهان، وقال: «أنا عبدك عدلان، أرجو أن أكون قد أديت مهمتك كما تشائين.»
قالت: «بورك فيك.» وابتسمت، ثم أردفت: «قل لي أين هو هانئ؟ وماذا فعلت به؟»
قال: «فعلت ما أمرتني به يا سيدة النساء وإنما أرجو أن تكوني راضية عن عبدك وأسير هواك، وتتحققي أنك لا تجدين من يذعن لأمرك وينفذ مآربك سواي.»
فابتسمت ابتسامة أخرى وحركت أجفانها حركة الدلال والرضا، وقالت: «إذا كنت قد فعلت ما فعلته بخفة ولباقة فإني راضية قل لي أين هو هانئ؟»
قال: «أظنه لا يزال تائهًا في هذه الصحراء يفتش عن حبيبته.»
قالت: «وكيف أوصلت إليه المنديل؟»
قال: «بعد أن أتيتك بالجواد الأدهم أمس، وعهدت به لهذا البطل (وأشار إلى رفيقه) وأفهمته كيف يخدع القهرمانة وكل ذلك بإرشادك، ذهبت بالمنديل إلى معسكر المسلمين فوصلت إليهم صباحًا، ومن حسن حظ مولاتي وتوفيقها أن رأيت الرجل خارجًا يتمشى، فأسرعت نحوه ودفعت إليه المنديل وأنا ملثم، فسألني عما أهدف إليه، فأخبرته أن صاحبة المنديل تدعوه إليها حالًا، وتركته وفررت إلى مكان أراه منه ولا يراني، فرأيته قد أسرع إلى جواده فركبه وساقه نحو الخباء فلما تحققت من ذهابه أسرعت من طريق آخر إلى معسكر مولاي الكونت أود وأخبرته بالواقع كما أمرت، وحرضته على مباغتة المسلمين حالًا وقائد فرسانهم غائب فاقتنع ونادى رجاله وهجموا على المسلمين وهم في غفلة، وقد رأيتهم في فشل عظيم، ولا أظنهم إلا قد ذعروا وتقهقروا والغالب أن الإفرنج قد استولوا على معسكرهم الآن.»
وكان عدلان يتكلم وميمونة ترمق حركاته، وكلما قال عبارة تبتسم له وتبدي ارتياحها، وهو يتكلم بحماسة وسرور، فلما قال ذلك، قالت: «ثم كيف فعلت ببسطام هذا؟»
قال: «ذهبت إليه في المعسكر القديم وأظهرت أني أخدمه خدمة تسره، وأني فاعل ذلك من تلقاء نفسي وأخبرته أن مريم خرجت من الخباء إلى هذا المكان وأني سأذهب به إليها فيبلغ منها ما يشاء على شرط أن يحافظ عليك فأثنى على غيرتي ودفع إليَّ هدية ثمينة، وكنت أتوقع أن يلتقي هانئ به فيقتتلا فيقضي أحدهما على الآخر فيكمل توفيقك، وتتم رغبتنا بانقسام هذا الجند، وقد جاء هانئ بعد ذهابه إلى الخباء ولم يجد مريم فيه فظن أن بسطامًا اختطفها، فلما لقيه في الخيام تشاجرا، وكاد هانئ أن يفتك به لو لم يجبن هذا ويدخل خيمته، وبعد ذهاب هانئ حرضت بسطامًا على الركوب سريعًا، فركب وسرت في ركابه والتقينا في أثناء الطريق بأخي هذا وكان قد جاء يستعجلنا، فبدلت عباءته بعباءتي وغيرت قيافته، وجئنا في ركاب بسطام كما رأيتنا.»
فقالت ميمونة: «بورك فيك من خادم أمين وإذا تحققت أمنيتنا بفشل جند العرب دعوتك بلقب آخر.» قالت ذلك وأشارت بحاجبيها.
فأشرق وجهه وجعل ينظر إليها وقلبه يكاد يطفح سرورًا لما شاهده من أنسها وتلطفها.