الخنجر
أما مريم، فلما رأت ميمونة مسوقة إلى تلك الحجرة وهي مقيدة الأطراف، وسمعت تضرعها إلى بسطام بشأنها آمنت بأنها تحبها، ولكنها كانت في شغل من أمر نفسها؛ لأنها لم تتوقع بعد ما رأته إلا الفتك الذريع من بسطام، وهو مع غلظته وخشونته كانت رائحة الخمر تفوح من فمه، وقد احمرت عيناه واربد لون وجهه، وتمنطق بجلد عريض غرس فيه خنجرًا ضخمًا وضع يمينه على قبضته ويسراه على قبضة السيف، فبدا لعيني مريم شيطانًا رجيمًا فاستعاذت بالله من ذلك الشيطان، وتضرعت إليه تعالى أن ينجيها منه على أنها لم تتمالك عن الاضطراب الشديد من منظر ذلك الوحش الكاسر، وكانت لا تزال متزملة بالعباءة الحمراء التي تعتقد أنها عباءة هانئ فوق ردائها الأسود، وعلى رأسها خمار أسود يغطي جبينها إلى الحاجبين، وقد تلثمت به من أسفل الذقن فبان وجهها من خلال ذلك مستديرًا، وقد تلألأت عيناها وزادهما الانقباض هيبة، ومع كل ما شاهدته من أسباب الخوف لم تخر عزيمتها، ولعلها كانت عند لقاء بسطام لأول وهلة أكثر اضطرابًا منها بعد ظهور تلك الفظاعة بتقييد ميمونة وحبسها، وقد أصبحت وهي معه وحيدين في ذلك البيت الواسع.
أما بسطام، فلما اختلى بمريم على تلك الصورة دعاها إلى الجلوس على كرسي هناك، كأنه يريد أن يخاطبها بلطف على سبيل الإقناع، فجلست، وجلس هو على كرسي آخر، والتف بعباءته حتى غطت السيف والخنجر، وهو يقول بلغة عربية مستعجمة في نغمة بربرية: «لا تخافي يا مريم إني لا أريد بك سوءًا؛ لأني أحبك حبًّا شديدًا (وبالغ في تشديد الدال) وأنت على ما يظهر قد غشَّك ذلك الغلام العربي، فانخدعت بأقواله، على أنك نصيبي وحدي من هذه الحرب، ولو شئت أن أمنعه منك لمنعته من أول ساعة، ولكنني تلطفت بك وأشفقت على مزاجك، والآن قد وقعت بين يدي، فلا مفر لك فأطيعيني.»
وكانت مريم تسمع كلامه وأطرافها ترتعد من شدة التأثر وهي تفكر في مجيئه إلى هناك هل كان على موعد أو كان ذلك مصادفة؟ وأحبت أن تماطله في الحديث ريثما يأتي هانئ لاعتقادها أنه قادم إليها فقالت: «دع عنك ذلك يا أمير فإن لكل شيء وقتًا، وأنتم الآن في حرب فبعد انقضائها يأخذ كل ذي حق حقه.»
فقال: «لا تماطليني بالمحال، ولا تظني أن هانئًا سيبلغ منك شعرة، فقد صرت في قبضة يدي ولن يخلصك منها أحد، فالأفضل لك أن تطيعيني وإلا فإني بالغ منك ما أريد قهرًا.»
فلما سمعت تهديده عظم عليها الأمر، ولكنها ظلت تحاول مماطلته ريثما يأتي هانئ لثقتها بأن هانئًا آتٍ لا محالة، فقالت: «لا أرى باعثًا إلى التهديد أيها الأمير، فإن من يعد نفسه أميرًا ويفتخر بشجاعته وشدة بأسه لا يليق به أن يهدد فتاة بمثل هذه العبارات، وخصوصًا في مثل ما أنتم فيه من الجهاد.»
فضحك بسطام ضحكة استخفاف، وقال: «نعم إني أمير شجاع وساحة الوغى تشهد لي بذلك ولولاي لم يكن لذلك الغلام ذكر بين الرجال، ولا كان لأولئك العرب راية تخفق في هذه البلاد، فإذا علمت ذلك فأقلعي عن ذكر سواي.»
فلما سمعت تعريضه بهانئ وبالعرب، ورأت أن اللين لا يجدي معه نفعًا، عادت إلى ما شبت عليه من الأنفة، وقالت: «دع عنك التعريض والتلميح فإنك لست من رجال الأمير هانئ، ولو حضر الآن ما تجاسرت على التحدث في حضرته بمثل هذا الكلام.»
فحملق بسطام بعينيه، ووقف بغتة وأمسك بذراع مريم وضغط بكل قوته كأنه يريد أن يبغتها لعلها تلين فشعر بصلابة عضلها كأنه قابض على حديد، ثم جذبت يدها من قبضته فلم يستطع منعها، ووقفت وهي تقول: «ابعد عني ولا تمسني، فقد بالغت في الاستخفاف حتى نفد صبري.»
فلما شاهد منها هذا الإصرار، ورأى فيها تلك القوة اشتد غيظه وقال لها غاضبًا: «لا تعللي نفسك بالمحال، فإني ضاربك بهذا السيف ضربة أقضي بها على حياتك، هل أنت إلا سبية تباعين ببضعة دراهم؟ وقد أخطأت في محاسنتك، فظننت أن المحاسنة ضعف، وأنت تعلمين أن في خبائي عشرات من أمثالك يتمنين رضائي.»