الغنائم والسبايا
فأقبل هانئ في أصيل ذلك اليوم على جواده كأنه جبل يسعى، وقد تعمم بعمامة حمراء وتزمل بعباءة حمراء، وتقلد حسامًا وقد نقش اسمه على نصاله ورصَّع قبضته بالحجارة الكريمة، وأمر بعض رجاله أن يفرزوا الغنائم، كل صنف منها على حدة، فجعلوا الأسرى في جانب، والسبايا من النساء والأطفال في جانب، والغنائم من الأسلحة والآنية والأموال والمجوهرات في جانب، واستدعى هانئ أمراء الجند، وهم جماعة كبيرة وفيهم البربر من أهل إفريقية، وهؤلاء كثيرون؛ لأن العرب كانوا يعتمدون عليهم في حروبهم في الأندلس وفرنسا، وكان هؤلاء أهل بطش وشدة، ولكنهم لم يكونوا على قلب واحد في نصرة الإسلام، لما كان من امتهان العرب يومئذ لغير العرب ولو كانوا مسلمين، فكان البربر يصحبون العرب في حروبهم رغبة في الغنيمة أكثر من رغبتهم في نصرة الإسلام، على أن بعض قبائلهم كانوا يرافقون العرب في الجهاد، وما هم من الإسلام على شيء، أو ربما تظاهروا به وهم يهود أو وثنيون، ويقال نحو ذلك في سائر فرق الجند غير العرب، فقد كان في جملة رجال هذه الحملة أناس من الأسرى أو العبيد اشتراهم العرب وربوهم في حجر الإسلام، وهم في الأصل من الصقالبة (السلاف) أو من الإفرنج أو الروم أو غيرهم.
فلما اجتمع القواد على خيولهم بين يدي هانئ، أمر بالغنائم من الآنية والأموال فجيء بها، فأمر بالخمس — وهو حق بيت المال — فنحوه جانبًا، ووزع ما بقي على الأمراء كل بنسبة عدد رجاله، وكان إذا رأى اختلافًا بينهم على قسمة، بذل من نصيبه وأنصبة رجاله في سبيل التوفيق.
وبعد الفراغ من قسمة الغنائم تحولوا إلى جهة الأسرى وكانوا عديدين، وقد شدوا بعضهم إلى بعض بالحبال أو السلاسل وساقوهم سوق الأغنام، وجاءوا بهم حتى أوقفوهم بين يدي هانئ، فالتفت هانئ إلى القواد وقال لهم: «إن هؤلاء الأسرى من جملة الغنائم ولا يمكن اقتسامهم فاعرضوهم للبيع، أين التجار؟» ولم يتم كلامه حتى جاء جماعة من يهود القيروان وقرطبة وغيرهما من مدن الإسلام، وكانوا قد صحبوا الحملة للتكسب من أمثال هذه الصفقات واليهود لا تفوتهم هذه الفرص، فلما حضروا تقدم واحد منهم وعلى رأسه عمامة سوداء واسعة، ولحية مسترسلة على صدره وأنفه أعقف كبير وعليه قباء واسع، ووراءه أحمال من الدراهم والدنانير، فقال له هانئ: «بكم تشتري هؤلاء الأسرى، يا هارون؟»
قال: «بالذي يأمر به مولاي.»
فقال هانئ: «لولا عزمنا على السفر إلى الحرب ما بعناهم، بل كنا نستخدمهم في منازلنا أو نتوقع الفداء من أهلهم، فلعل بينهم من أولاد الأغنياء من يفتديه أهله بالأموال الطائلة، ولكننا على أهبة المسير للحرب ولا وقت لدينا فاشترِ» قال هانئ ذلك في بساطة وأنفة، ولكن هارون تمسك بقوله وصمم على الاحتيال للشراء بأقل الأثمان، فقال: «صدق مولاي، ولكن ابتياع هذا القدر من الناس خطر علينا إذ لا ندري كيف ننقلهم إلى إسبانيا أو إلى إفريقية أو إلى الشام حيث يعرضون للبيع وفي ذلك من المشقة والنفقة ما فيه.»
فضجر هانئ من هذه المطاولة، وهو يود أن يفرغ من هذه الصفقة لأمر يهمه في الصفقة التالية: صفقة السبايا فقال: «اشتر الأسير بدينار، الكبير منهم كالصغير، على أن تكون أسلابهم لنا غير ما يكسو عوراتهم.»
فضحك هارون وهو يمشط لحيته ثم يقبضها بيده ويرسلها على صدره ويتظاهر بأنه استكثر المبلغ وقال: «ألا يكفي أن أدفع أثمان هؤلاء وهم مئات ثم تطالبني بأسلابهم وما عليهم منها إلا الثياب.»
فقال هانئ: «قد بعناك فادفع المال إلى هذا الكاتب وهو يحصي العدد ويقبض الثمن.» قال ذلك وأشار إلى كاتبه وساق فرسه إلى جانب آخر من تلك الساحة حيث كانت السبايا وفيهم النساء والأطفال فتبعه هارون وهو يقول: «لا تبع السبايا لسواي.» فاعترضه تاجر آخر شهد صفقة الأسرى وصاح فيه: «قد اشتريت الأسرى وحدك، فدع السبايا لنا.» فأجابه ذاك جوابًا جافًّا، فانتصر بعض الوقوف من اليهود لهارون والبعض الآخر لرفيقه وعلت الضوضاء، فسمع هانئ ضوضاءهم فصاح فيهم قائلًا: «لا تغضبوا إننا نقسم الصفقة بينكم على السواء.»
فلما وصلوا إلى موقف السبايا ساق هانئ جواده إلى آخر موقفهم، وكانوا قد وقفوا صفوفًا نساء وأطفالًا فمر بهم الهوينا وهو يتفرس في الوجوه كأنه يفتش عن ضائع، والنساء يتضرعن إليه بالإيماء والبكاء؛ لأنهن لا يعرفن العربية، وهو لا يلتفت إلى أحد حتى وصل إلى آخر الصف حيث عثر على ضالته، وهي فتاة لم يرَ الراءون أجمل منها وبجانبها امرأة في نحو الأربعين من عمرها، والهيبة والجلال ظاهرًان عليهما، وبرغم عويل سائر النساء والأطفال، فإنهما كانتا هادئتين لا تبديان حراكًا وليس في ملامحهما ما يدل على الخوف أو الاضطراب، وكانت المرأة بيضاء اللون شقراء الشعر، زرقاء العينين، وقد لملمت شعرها وضمته في أعلى رأسها تحت خمار أسود، وارتدت ثوبًا أسود يجللها كلها حتى ليحسبها الناظر إليها من سكان الأديرة، وكانت جالسة حينئذ على حجر وقد أطرقت كأنها تفكر في أمر ذي بال، وفي يدها محفظة من جلد قد حرصت عليها حرصًا شديدًا.
أما الفتاة فكانت واقفة بجانبها، وعليها لباس أسود مثل لباسها، وقد أسندت يدها إلى كتف المرأة وهي مكشوفة الزندين إلى الكوع وقد التف زنداها التفافًا بديعًا، وكانت طويلة القامة على اعتدال ورشاقة وقد بدت غضة، في محياها الحياة والنشاط، ويحسبها الرائي — أول الأمر — في الخامسة والعشرين، وهي في الحقيقة دون العشرين سمراء اللون، سوداء العينين، كحلاء الجفون، حادة البصر مع وداعة ورقة تدل وقفتها على الصحة والقوة معًا، ويتجلى فوق ذلك كله لطف نسائي يسحر الألباب، وكان ثوبها الأسود بسيطًا، وقد انفتح الرداء من أعلى الصدر فبدا عنقها وفيه مظاهر الصحة والقوة بامتلائه واستدارته، وصففت شعرها الكستنائي الجميل على هيئة ضفيرتين مستطيلتين أرسلتهما إلى صدرها من جانبي العنق، فبلغتا إلى تحت الخصر فوق منطقة من جلد، وغطت رأسها بنقاب أسود يكسو شعرها ويسترسل على كتفيها وظهرها، والناظر إلى الفتاة بجانب تلك المرأة يتبادر إلى ذهنه أنها والدتها وإن اختلفا خلقة وشكلًا؛ لأن المرأة كانت بيضاء اللون شقراء الشعر والفتاة سمراء كما تقدم.
أقبل هانئ إليهما والفتاة تنظر إلى والدتها وتخاطبها همسًا فلما وصل إليها رفعت نظرها إليه وتفرست في وجهه وتفرس هو فيها هنيهة، لا ندري ما دار في أثنائها بينهما من حديث العيون، ثم أمر بعض الغلمان ممن كانوا في ركابه أن ينقلهما إلى مكان منفرد ريثما يفرغ من مهمته، فلم يستغرب أحد طلبه؛ لأن ذلك من الأمور العادية في مثل هذه الحال، فالفاتحون يختارون من غنائمهم ما شاءوا لأنفسهم ويبيعون ما شاءوا.
ثم عاد هانئ إلى أواسط الصف ونادى التجار، وقال: «كيف تقسمون هذه السبايا؟»
فتقدم هارون وقال: «لا يمكن الاقتسام في هذه الحال؛ لأن ثمن الفتاة أو المرأة يختلف باختلاف درجة جمالها وعقلها وما تجيده من الأعمال، كالخياطة أو الطبخ أو الرقص أو الغناء، كما يتوقف على صحتها ودرجة احتمالها وما إلى ذلك فالأحسن إذا شاء مولاي أن ينتقي كل منا ما شاء من هؤلاء على شرط أن من يختار أولًا يدفع الثمن غاليًا، ثم يقل الثمن في الاختيار للثاني، فالثالث.»
فاستحسن هانئ هذه الطريقة، فقال: «إن الذي يتقدم أولًا لاختيار من يريد من هؤلاء تحسب عليه المرأة بخمسة دنانير والغلام بدينار، والذي يتقدم ثانية فإنه يدفع نصف هذه القيمة.» قال ذلك والتفت إلى الكاتب وأمره أن يتم البيع ويستولي على الثمن ويقسمه على الجند باعتبار العدد، وساق جواده إلى السبيتين.