هانئان
وفيما هو يستحث رجاله ويحرضهم على الصبر والثبات، لاحت منه التفاتة إلى يسار الجند فرأى من خلال الغبار والنبال فارسًا على جواد أدهم عليه عباءة حمراء، وعلى رأسه خوذة، وقد أشرع سيفه وأطلق لفرسه العنان، فبذل الفرس أقصى ما عنده من العدو حتى اعتدل عنقه وتطاير عرفه وانتصب ذيله وامتدت قوائمه، فاستطال بدنه وتناثر التراب من مواقع حوافره ولولا ذلك التناثر ما علمت مواقعها، وتصاعد الغبار خلفه وهو منطق بالفرس الذي بدا كأنه سابح في الهواء وكأنَّ الغبار يحاول اللحاق به فلا يدركه، والفارس ثابت على ظهره كأنه قطعة منه لا يبالي بالسهام المتطايرة ولا بالرجال المهاجمين، فلما رآه عبد الرحمن خفق قلبه سرورًا لاعتقاده أنه هانئ، فساق جواده نحوه حتى اقترب منه وهو يتوقع أن يقف له، ولكنه ظل هاجمًا نحو الإفرنج وهو يقول: «أتاكم هانئ لا تفشلوا، ولا تخافوا من غلمان الإفرنج إنهم غنيمتكم في هذا اليوم.»
فلم يشك عبد الرحمن أنه الأمير هانئ نفسه وأراد أحدهم أن يستقدمه إلى عبد الرحمن فلم يصغِ إليه، وساق جواده إلى معسكر الإفرنج من جهة لم يكن الإفرنج يظنون أن العرب يأتونهم منها فاشتدت عزائم العرب وخاصة الفرسان وساروا في أثره كأنهم الأسود الكاسرة، فبغت الإفرنج وأرادوا أن يحولوا قوتهم إلى الجهة التي هاجمهم منها ذلك الفارس، وإذا بفارس آخر بعباءة حمراء وخوذة على جواد أدهم أيضًا، وقد استل حسامه وهجم على الإفرنج من جانب آخر وهو يقول: «جاءكم الأمير هانئ.» فتبعه من بقي من الفرسان فانقسم الإفرنج شطرين لملاقاة الفريقين، فضعفت قوتهم، وازداد المسلمون ثباتًا وشجاعة، ولم يمسِ المساء حتى فر الإفرنج على بكرة أبيهم وأصبح معسكرهم غنيمة للمسلمين، فاستولى المسلمون على ما هناك من الخيام والأسلحة والأطعمة والذخائر، وكان الأمير عبد الرحمن قد شاهد هجوم الأمير الآخر من الناحية الأخرى وهو يشبه الأمير هانئًا؛ لأن كليهما بملابس متشابهة وعلى فرسين متشابهين.
فلما فر الإفرنج كانت الشمس قد غابت واكفهر وجه السماء وعاد عبد الرحمن إلى خيمته حيث كان يتوقع أن يلاقي الأمراء وهانئ في جملتهم ليعهد إليه بأمر الغنائم على عادتهم.
وبعد قليل جاء أحد الفارسين صاحبي الأدهمين، فإذا هو هانئ نفسه، فرحب به فابتدره هانئ قائلًا: «لقد غدر بنا هؤلاء الإفرنج وتوسموا أن في الغدر خيرًا وقد دمرهم الله، ولو علمت بعزمهم على الهجوم ما فارقت المعسكر لحظة.»
فقال عبد الرحمن وهو يتحول عن جواده ويتشاغل بإصلاح ركابه: «لقد شغلت خاطرنا في غيابك، فنحمد الله على رجوعك.» ثم التفت إليه بلهفة وقال: «ومن هو هذا الفارس الذي تقدمك وتسمى باسمك؟»
فقال هانئ: «لم يكن معي أحد.»
قال عبد الرحمن: «أما رأيت فارسًا على جواد أدهم مثل جوادك ويلبس عباءة مثل عباءتك؟ لقد رأيته بعيني وسط المعركة قبل وصولك، وسمعته يتسمى باسمك.»
قال ذلك ونظر إلى أحد الرجال حوله، وقال: «أين ذلك الفارس الذي كان على الجواد الأدهم؟»
فأجاب أحدهم: «رأيناه هاجمًا وقد أوغل في الصفوف، ثم توارى وربما جاء بعد قليل.»
فصاح عبد الرحمن: «اذهبوا في أثره واستقدموه.» وتحول عبد الرحمن وهانئ إلى الخيمة، وجاء في أثرهما بعض الأمراء ثم جلسوا يتحدثون في أمر ذلك اليوم العجيب، وما كان يهددهم من خطر وكلهم يذكرون هانئًا آخر ويتعجبون، على أنهم اشتغلوا عن ذلك بعد قليل بتدبير أمر الغنائم والأسرى، ولم يكن في معسكر الإفرنج نساء؛ لأنهم لا يحملون معهم نساءهم ولا أولادهم، أما الرجال، فإنهم ركنوا إلى الفرار وفي مقدمتهم الكونت أود صاحب أكيتانيا ورجال حاشيته.
فتباحث الأمراء في أمر الغنائم من الأسلحة والخيام والفرش وغير ذلك، وعهدوا إلى كتَّاب الجيش بالعمل على تقسيمها وحفظ حق بيت المال على عادتهم، ولم تكن الغنائم في هذه الوقعة كثيرة فاقتسموها على عجل، وقضوا تلك الجلسة وكل منهم يفكر في أمر ذلك الفارس، ثم تفرقوا إلى خيامهم إلا هانئًا فإنه بقي عند عبد الرحمن يقص عليه حديثه باختصار، ولم يكتمه شيئًا بعد ما آنسه من مجاراته في حبه لمريم، فلما بلغ إلى حديث بسطام وما كان من حاله في مستودع الغنائم، هز عبد الرحمن رأسه وقال: «إنا لله وإنا إليه راجعون، إن أمر هؤلاء البرابرة يقلقني، فإنني أخشى عواقب استبدادهم إذا نحن بالغنا في استرضائهم، وأخشى — من جهة أخرى — إذا جافيناهم أن يفسدوا علينا سعينا.»
وكان هانئ حينما ذكر الجواد الأدهم الذي أخذت مريم به، تذكر ما قالته القهرمانة عن العباءة الحمراء والخوذة اللتين تشبهان عباءته وخوذته، فتبادر إلى ذهنه أن ثمة علاقة بين ذلك الجواد وهذا الفارس.
وبينما هما في ذلك إذ عاد الذين ذهبوا للبحث عن هانئ الآخر، وقالوا: «لقد بحثنا عنه في المعسكرين فلم نقف له على أثر.» فعاد هانئ إلى هواجسه وهو في قلق على مريم، ولم يفهم تلك الأسرار، وخشي أن يكون قد أصابها سوء، أو لعلها في ضيق، أو تكون قد فرت من معسكر العرب بتلك الحيلة، أما عبد الرحمن فإنه حينما سمع ما قصه عليه هانئ من أمر مريم وخروجها، وتذكر والدتها والمهمة التي ذهبت لأجلها، أوحى إليه سوء ظنه — والعاقل سيء الظن — باتهام سالمة في الأمر، وأنها إنما تظاهرت بما تظاهرت به احتيالًا للفرار من الأسر، ثم راجع ما حفظه من حديثها، وما كان يبدو في وجهها من أمارات الجد، فغلب عليه الاعتقاد في صدقها.