الإخلاص
فلما ذكرت مريم أنها قتلت بسطامًا، صاح الأمير عبد الرحمن: «بسطامًا؟»
قالت: «نعم قتلته وقد قصصت عليك السبب الذي دعاني إلى قتله، فإما أن تعذرني فيه أو تقتلني بسببه فإني بين يديك.»
فتصدى هانئ للجواب قائلًا: «إن قتله مقدر منذ أيام، ولو لم تقتلينه أنت لقتلته أنا، وإذا رأى الأمير عبد الرحمن أن ينتقم له، فلينتقم مني.»
فقال الأمير عبد الرحمن: «لا أريد الانتقام له، ولكنني أخشى أن يترتب على مقتله اضطراب في صفوف الجند لما تعلمون من …» ثم انتبه لوجود ميمونة هناك، فتوقف عن إتمام الحديث وحول الموضوع فقال: «سنعود إلى البحث في ذلك، والآن أخبرينا عن سبب تأخرك عن القدوم إلى الآن مع أن المعركة انقضت منذ بضع ساعات؟»
فلما سمعت مريم سؤال عبد الرحمن أشارت بيدها إلى ميمونة، وقالت: «قد كنت في شغل من أمر هذه الصديقة؛ لأني تركتها أسيرة في ذلك القصر المهجور حين أسرعت إلى ساحة الوغى، فلما فرغت من ذلك واطمأن بالي على الجند تذكرت ما هي فيه من الضيق بسببي، فلم أتمالك عن الذهاب لإنقاذها فأسرعت إلى القصر قبل المجيء إلى هذا المعسكر، فوجدتها لا تزال مغلولة وقد غادرها الحارسان، فحللت قيودها وجئت بها على جواد كان لا يزال هناك، ولو لم أستطع إنقاذها لتنغص عيشي؛ لأنها إنما أسرت وأهينت بسببي فلما رجعت كان الليل قد أظلم فاهتديت إلى معسكركم بنيرانه، وعرفت خيمة الأمير من العلم الذي ببابها فجئت كما ترون.»
وكانت مريم تتكلم والهيبة تتدفق من محياها والصدق يتجلى في كل لفظ من ألفاظها، فازداد عبد الرحمن إعجابًا بها والأمير هانئ هيامًا بحبها فصاح هانئ: «بورك في بطن حملك، ووالله؛ لأنت بشير خير ورسول سعادة لهذا الجند.»
فوقفت ميمونة عند ذلك وهي تتظاهر بالامتنان واللطف والحياء، وقالت: «لا غرو أن أعجب بها الأمير وهو في أبان الشباب فقد عشقتها النساء قبله، وأعترف أني لم تقع عيني في هذه البلاد ولا في غيرها على فتاة جمعت ما جمعته هذه الحبيبة من لطف النساء وبسالة الرجال وأنفة الأمراء وحنو الأمهات، عدا ما في خصالها من صدق اللهجة وعزة النفس، فهي جديرة برضاء الأميرين، وأما أنا فقد كنت أعدها صديقتي، وأصبحت أنظر إليها — بعد ما غمرتني به من جميل — نظري إلى من هو فوق مرتبتي.»
وكانت مريم في أثناء ذلك مطرقة تكاد تذوب خجلًا، وقد كلل العرق جبينها حتى تقطر فوق خدين توردا من شدة الحياء، ولم تستطع جوابًا فلاذت بالسكوت والإطراق.
وأدرك عبد الرحمن ذلك فيها فأشفق على عواطفها، فعمد إلى تغيير الحديث فقال: «أرى مريم أهلًا لأكثر من ذلك، وأما الآن فقد آن لها أن تستريح بعد هذا العناء.» ثم صفق فدخل الغلام، فقال له: «أعدد لهاتين السيدتين خيمة تنامان فيها، وأحضر لهما كل ما تحتاجان إليه من وسائل الراحة وخذ الفرسين إلى الإسطبل.»
فأشار إشارة الطاعة وخرج، وخرجت مريم وميمونة في أثرها، وهانئ يراقب مريم في أثناء خروجها وقد تضاعف هيامه بها، وتذكر ما عاهدها عليه من أمر الزواج بعد أن يقطعوا نهر لوار، فلما تذكر ذلك هان عليه أن يقتحم جند الإفرنج وحده إذا حالوا بينه وبين ذلك النهر فلما خرجت المرأتان وبقي الأميران على انفراد، لاحظ عبد الرحمن ما بدا في وجه هانئ من دلائل الهيام فسره تعلقه بمريم، وتغلب هذا الخاطر على ما عساه أن يكون قد خطر في باله من الاستئثار بها دونه لما آنسه من الشبه الشديد بين الحبيبين في البسالة والحماسة والأنفة مع ما بينهما من المحبة المتبادلة على أنه ما لبث أن غلب على فكره أمر ذو علاقة كبرى بسلامة ذلك الجند والاحتفاظ باتحاده على أثر ما سمعه تلك الليلة من مقتل الأمير بسطام، وأصبح لا يشك في أنه إذا بلغ خبر مقتله إلى رجاله فإنهم يثورون ويطالبون بدمه، فاذا علموا أن مريم قد قتلته فربما أساءوا إليها فيستاء هانئ، وتكون البلية الثانية شرًّا من الأولى فلبث الأمير عبد الرحمن هنيهة وهو مطرق، وأصابعه تداعب لحيته، وقد استغرق في التفكير حتى غلب عليه الجمود.
وكان هانئ مطرقًا مثل إطراقه ولم ينتقل فكره من مريم إلا إلى ما قد يحول بينه وبينها من جنود الإفرنج وحصونهم.