حيلة جديدة
انتبه عبد الرحمن بغتة ونظر إلى هانئ، فلما رآه مطرقًا أدرك أنه يفكر في أمر غير الذي يفكر فيه، فعذره في استغراقه في التفكير في مريم بعد ما شاهده منها، ولكنه خاطبه بلطف وإيناس قائلًا: «بورك لك في هذه الفتاة، فإنك والله جدير بها، ولكنني لا أزال أتوقع منك رأيًا لا يتم لنا أمر بدونه.»
فلما سمع هانئ كلامه عاد إلى رشده وفاته لأول وهلة إدراك مراد عبد الرحمن، فقال: «وأي أمر تعني أيها الأمير؟»
قال عبد الرحمن: «أعني بسطامًا وقتله لا أنكر أنه نال ما يستحقه، ولكنك لا تجهل حاجتنا إلى بقائه إذا لم يكن للاستعانة بسيفه فللاحتفاظ بولاء قبيلته، وأنت تعلم شأن أولئك البرابرة معنا، وخصوصًا رجال بسطام فانهم إنما أعانونا طمعًا في الغنائم ولم يذعنوا لأوامرنا إلا وفي نفوسهم ضغائن علينا، لاعتقادهم أن العرب ظالموهم ومستأثرون بالسلطة والأموال دونهم، فإذا علموا بمقتل أميرهم أخشى أن يبدو منهم ما يفسد أمرنا ويفرق كلمتنا، ونحن في أشد الحاجة إلى الاتحاد فما رأيك؟»
فبادر هانئ بالجواب كأنه شغل بتنميقه وإعداده منذ أيام، وقال: «ليس أهون عليَّ من إرضاء أولئك البرابرة، فقد قلت إنهم لم يعاونونا في هذه الحرب نصرة للإسلام، وإنما أرادوا كسب الأموال، وأقول لك إنهم لم يطيعوا بسطامًا إلا لمثل هذه الغاية؛ لأنه واسطة بيننا وبينهم، فإذا تحققوا من ذلك الكسب ظلوا على الطاعة وزد على ذلك أننا نستطيع أن نوهمهم بأن ذهابه سيدعو إلى زيادة أنصبتهم من الغنائم؛ لأنه كان كثير الطمع لنفسه، ثم نمنح أولئك الأمراء هدايا خاصة ونطلب إليهم أن يختاروا رئيسًا منهم بدل بسطام وإذا عهدت إليَّ بتدبير ذلك فعلته وأنا ضامن السلامة بإذن الله، فإن من كانت مطامعه الأموال لا يصعب إرضاؤه.»
فأعجب عبد الرحمن بسداد ذلك الرأي، وعهد إليه بتدبير الأمر بحكمة، وفوض إليه إجراء ما يراه ولم يكن ذلك صعبًا عليه.
وفي صباح اليوم التالي، تفاوض الأمراء في أمر الأخبية فأجمعوا على حملها إلى هناك، فبعثوا جندًا لنقل المضارب وخيام الغنائم التي كانت باقية في المعسكر القديم، وأتم هانئ مهمته على نحو ما قال، ومكثوا هناك يتأهبون للمسير نحو نهر لوار بعد رجوع سالمة من مهمتها ليعلموا كيف يتصرفون؛ لأن عبد الرحمن كان يتوقع فوائد كبرى من مساعي سالمة، لعلمه أن اتحاد جنده لا يبقى طويلًا لاختلاف عناصره وتضارب مقاصد أمرائه فإذا لم يتخذ وسائل أخرى خشي العاقبة فضلًا عما يترتب على مشروع سالمة من حقن الدماء وسهولة الفتح.
أما ميمونة، فقد علمت ما كان من حيلتها، وما دبرته لفشل جند المسلمين، وكيف أنها لم تنجح لأسباب تقدم ذكرها ولكنها كانت بدهائها ومكرها قد حفظت لنفسها خط الرجوع، فأظهرت أنها أسيرة بسبب مريم وقد سرها مقتل بسطام؛ لأنه مطلع على بعض أسرارها، وفي مقتله أمان من إفشائها فلما خرجت مريم على الجواد الأدهم في ذلك اليوم أرسلت ميمونة أحد الرجلين في أثرها، فلما عاد من المعركة وأنبأها بهزيمة جند الإفرنج أمرت الرجلين بالفرار، وظلت في أغلالها هناك على أمل أن تبعث مريم من يخلصها، ولم يخطر لها أن تأتي هي بنفسها، فلما جاءتها مريم وجدتها وحيدة، فحلت قيودها وسارت بها إلى معسكر العرب.
وقد رأيت مبالغة ميمونة في امتداح شهامة مريم؛ لأنها رأت الأميرين معجبين بها فأرادت مجاراتهما تمويها لما قد يظنان، وفي الواقع لم يخطر لهما شيء من سوء الظن بها من هذا القبيل، أما هي فقد كظمت ما في نفسها وعزمت على اتخاذ وسيلة ناجحة كانت قد ادخرتها في ذهنها لحين الاضطرار، فلما ذهبت مع مريم إلى الخيمة تلك الليلة ظلت على إظهار إعجابها بها والإشادة بما شاهدته من سجاياها، حتى إذا خلت بنفسها لبثت تنتظر عدلان الأحول لتفاوضه في الحيلة التي دبرتها وهي لا تشك في نجاحها.