سالمة في بوردو
فلندعهم يدبرون وينتظرون، ولنعد إلى سالمة ومهمتها فقد طال بنا السكوت عنها تركناها وقد ركبت من خباء المسلمين تلتمس بوردو وحسان العجوز في ركابها، فلما بعدا عن الخباء وأطلا على بوردو التفتت سالمة إلى حسان وقالت: «هل كان يخطر لك يا حسان أن نوفق إلى مثل الأمير عبد الرحمن بعد طول انتظار، عملًا بالوصية؟»
فقال: «أما وقد ذكرتني بالوصية يا مولاتي، فهل لي أن أسأل إذا كنت ما تزالين محتفظة بتلك المحفظة فقد رأيتها بين يديك، وكان عهدي أنك تحفظينها في مكان لا يراها فيه أحد.»
قالت: «صدقت يا عماه إنها كانت في يدي في أثناء خروجنا من الأسر؛ لأني كنت قد أخرجتها من مخبئها ساعة يئست من الحياة، وحسبت أن هؤلاء العرب سيقتلونني فهممت قبل أن تفيض روحي أن أضم هذه الوصية اليَّ وأتنسم ريح صاحبها منها، ثم أعهد إليك أو إلى سواك أن يوصلها إلى صاحب هذا الجند أما الآن فلا تقلق؛ لأني تأبطتها تحت أثوابي، وما ظنك في مريم وهي وحدها في خباء العرب؟»
قال: «لا بأس عليها يا مولاتي والعرب شديدو العناية بنزلائهم وخصوصًا من كان منهم في ضيافة الأمير الكبير، وقد لحظت من أهل ذلك الخباء ترحيبًا كبيرًا بمريم، فالنساء أحببنها واحتفلن بها وخصوصًا ميمونة، وقد سمعت من الخصيان الصقالبة الذين يخدمونها أنها أحبت مريم وبذلت كل ما في وسعها لراحتها.» وكان حسان يتكلم وهو يعدو عدوًا خفيفًا بجانب ركاب سالمة، وهي تسمع كلامه ممتزجًا بشخير الفرس وطقطقة حوافره، فلما قال ذلك جذبت لجام الفرس ليسير بها الهوينا، والتفتت إلى حسان وقالت: «لا أخفي عليك يا حسان أني أخاف على مريم من هذه المرأة أكثر من سائر أهل هذا الجند نساء ورجالًا.»
فبغت الرجل وكان يتكلم وهو يتفرس في الأرض ليتقي الحجارة والأشواك، فلما سمع قولها رفع بصره إليها وقال: «وما هو سبب خوفك يا مولاتي؟»
قالت: «لأني شاهدت هذه المرأة التي تسمى ميمونة فإذا هي داهية دهياء، وأظنني عرفتها وأخشى أن تكون قد عرفتني، ولذلك فإني لم أطل الكلام معها ولا شك أن بقاءها في هذا المعسكر خطر، فإذا انتهيت من مهمتي هذه في بوردو وما وراءها فسأعود إلى الأمير وأطلعه على حقيقة هذه المرأة لئلا تخدعهم وتفسد شئونهم؛ لأنها ذات شأن عند الإفرنج ويهمها أن يكون النصر لهؤلاء، وإني أعجب أن تكون في خباء الأمير عبد الرحمن، وعهدي بها في غير هذه البلاد وسننظر في شأنها عند رجوعنا.»
فلما سمع حسان قولها مال بكليته إلى استطلاع الحقيقة، ولكنه لم يجرؤ على السؤال عن اسمها فقال: «وهل أعرفها أنا؟»
قالت: «لا شك في ذلك دعنا من هذا الآن.»
فسكت حسان، وكانا قد أشرفا على أسوار بوردو فرأيا الناس خارج السور زرافات ووحدانًا وقد خرجوا لافتداء أسراهم، وكلهم فرحون بما أوتوه من الرفق، وأكثر الناس غيظًا من ذلك الرفق اليهود، وخصوصًا الذين كانوا قد ابتاعوا الأسرى وهموا بحملهم للاتجار بهم، فلما جاءهم أمر الأمير بالتخلي عنهم غضبوا واستغربوا ذلك وأرادوا الامتناع عن التسليم ثم أذعنوا، فلما رأت سالمة تزاحم الناس هناك تحولت إلى باب من أبواب المدينة بعيدًا عن ذلك الزحام، وسارت توا إلى أسقف بوردو فترجلت بباب القلاية، وتركت حسانًا عند الفرس، ودخلت تلتمس الأسقف، فرأت أهل ذلك المكان من القسس والرهبان وغيرهم في حركة، وقد تجلت في وجوههم أمارات السرور لما جاءهم به هانئ في مساء الأمس من آنية الكنيسة مع الأمر بافتداء الأسرى، وكان أكثر القسس يعرفونها فرحبوا بها وبشروها بما كان، فهنأتهم وطلبت إليهم أن يستأذنوا الأسقف في مقابلة خاصة، فالتمسوا لها الإذن فلما دخلت عليه تلقاها بترحاب واحترام، مع أنه لم يكن يعرف حقيقة أمرها ولكنه كان يحترمها لحكمتها وسداد رأيها.
فلما دخلت قبلت يده فباركها، وجلست إلى جانبه فسألها عما تريد، فقصت عليه مختصر ما جرى لها حتى انتهت إلى أمر الأسرى فأكدت له أن العرب أكثر الأمم رفقًا برعاياهم وأسراهم، وأنهم إنما امتد سلطانهم في الشرق والغرب لما آنسه أهل البلاد على اختلاف مذاهبهم من حرية الدين والعمل على غير المألوف عند أمم الإفرنج في ذلك العصر، وأن ما أصاب كنيسة بوردو من النهب إنما وقع سهوا من بعض ذوي المطامع من أتباع جند المسلمين غير العرب.
فلما سمع الأسقف كلامها تذكر أنه كثيرًا ما كان يسمع منها إطراء العرب من قبل ولم يكن يصدق ما يسمع، وكان يظنها تقول ذلك عن هوس مثل هوسها بتعليم ابنتها اللغة العربية وهي مقيمة ببلاد الإفرنج مع كونها غير عربية، فلما سمع قولها بعد ما شاهده من الرفق آمن بصدقها فجاراها في الإطراء، فاغتنمت تلك الفرصة وانتقلت إلى الحديث المقصود فقالت: «لا أنسى يا سيادة الأسقف ما كنت ألقاه من نفورك إذا امتدحت العرب بين يديك حتى شاهدت ذلك بنفسك عن بعد، ولو أتيح لك معاملتهم ومعاشرتهم لزدت ارتياحًا لهم ولذلك فإني أستغرب محاربة أهل هذه البلاد لهم، والوقوف في سبيلهم.»
فقال الأسقف: «صدقت يا ابنتي، إننا كثيرًا ما سمعناه بعدلهم غير أننا رأينا من بعضهم من القسوة ما يشيب لهوله الأطفال حتى كاد يثبت عندنا ما كنا نسمعه من أنهم يعبدون الأوثان ولا يعرفون عبادة الله.»