الدير
وكان حسان يعرف أكثر من طريق يؤدي إلى بواتيه، فسار في أسهل الطرق بحيث لا يكون عليهما بأس وقد دبر أن يصلا كل مساء إلى دير ينزلان فيه ويبيتان ثم ينهضان في الصباح التالي فمشيا بقية ذلك اليوم، وقلما تكلمت سالمة لانشغال خاطرها بالمهمة التي تسعى إليها فلما أمسى المساء أشرفا على دير لا يعد من الأديرة الكبرى، فتحولا إليه وهو قائم على سفح جبل فوق نهر تجري مياهه في معظم السنة، وحول الدير مغارس الكرم والزيتون وأشجار الليمون والتفاح وغيرها، وهو كسائر الأديرة في تلك الأيام، يتألف من بناء محاط بسور عالٍ له باب صغير للدواب ونحوها، فلما أشرفا على الباب تقدم حسان وقرعه بجرس معلق فوقه، فأطل عليه راهب من كوة فوق الباب سأله عن غرضه فقال له: «نحن غرباء نبغي المبيت عندكم، فهل من مكان؟» قال حسان ذلك بلغة أهل البلاد، ولكن ظهر من لهجته أنه غريب عنها ففتحوا لهما، فدخلت سالمة وتركت حسانًا لينظر في أمر الفرسين ثم يدخل في جملة خدم الدير، فلما رآها الراهب البواب توسم في منظرها وفي زيها هيئة الجلال والوقار فأسرع إلى الرئيس فأخبره بذلك فأمر أن يدخلها إليه، فعاد وهو يقول: «تفضلي إلى حضرة الرئيس وهو يأمر بغرفة تقيمين فيها ما شئت.»
فمشت سالمة في صحن الدير فرأته مزدحمًا بالناس من الرجال والنساء والأطفال، وأكثرهم من أهل بوردو وضواحيها، فأدركت أنهم لجئوا إلى الدير خوفًا من العرب، فظلت في طريقها حتى أقبلت على غرفة الرئيس، فلما دخلت وقف لاستقبالها ورحب بها وأمر لها بالطعام، وسألها عن مسيرها في ذلك الطريق، فقالت: «إنها قادمة من بوردو، وسائرة إلى بواتيه.»
فلما علم أنها قادمة من بوردو قال: «لعلك في جملة الذين فروا في أثناء الحرب على أثر نهب الكنيسة والفتك بالأسرى؟»
قالت: «لقد أخطأ الذين فروا؛ لأن نهب الكنيسة إنما كان تعديًا من بعض الغوغاء المرافقين لجند العرب، ولما علم الأمير بذلك أمر بإعادة الآنية إلى مكانها ورد الأسرى إلى أهلهم بالفدية القليلة، وأحاطوا أهل بوردو بكل وسائل الرفق.»
فلما سمع الرئيس قولها، بدا الاستغراب على وجهه وقال: «وهل يعرفون الرفق؟ وما الذي يدعوهم إليه، أو يردعهم عن الفتك والقتل ولا دين لهم ولا ذمام؟»
فقالت وهي تبتسم: «هل رأيت أحدًا منهم يا مولاي؟»
قال: «كلا ولكنني سمعت ذلك من كثيرين.»
وأرادت سالمة أن تدفع تلك التهمة بالبرهان فسمعت ضوضاء وصياحًا في بهو الدير، فوقف الرئيس بغتة وصفق فجاءه أحد الرهبان يعدو، فصاح فيه الرئيس: «ما هذه الضوضاء؟»
قال الراهب وهو يضحك والبغتة ظاهرة في وجهه: «هذا داتوس يا سيدي.»
قال الرئيس: «داتوس؟ وما الذي فعله؟ لقد عهدناه معتزلًا لا يخاطب أحدًا ولا يقوم إلى الطعام إلا كرهًا!»
قال: «ذلك هو عهدنا به أيضًا، ولكننا نراه قد أصيب بجنون مؤقت فهجم على خادم الأميرة (وأشار إلى سالمة) وأوسعه ضربًا وصفعًا، وهو يصيح: يا أماه! يا أماه! حتى كاد أن يقتله لو لم نتدارك الأمر ونمسكه منه.»
فلما سمعت سالمة ذكر خادمها قالت: «وأين هو حسان؟ وما الذي جرى له؟ هل عليه من بأس؟»
فقال الراهب: «هو في خير وسلامة، ولكننا لم نستطع منع داتوس من الهجوم عليه، فبعد أن أرجعناه عنه هجم عليه ثانية بهراوة كانت بيده، ولما أمسكناه عنه بالعنف رمى بالهراوة على حسان وسقط هو على الأرض وقد أغمي عليه من شدة الغيظ، وقد تركته وهو يختلج ويرتعد، ولا يزال يذكر أمه.»
فنهض الرئيس وهو يهز رأسه كأنه يستعيذ من شر يخافه، وتبعته سالمة وقد استغربت ما سمعته عن ذلك الشاب، وتبادر إلى ذهنها أنه مصاب بخبل في عقله، وبعد هنيهة أشرف الرئيس وسالمة على مكان الحادثة، وكانوا قد أدخلوا حسانًا إلى حجرته ليغسلوا جراحه، فوقع نظرها على شاب في عنفوان الشباب مطروح على الأرض، وقد تطايرت قبعته واشتبك شعره، وكان جميل الصورة واسع العينين شديد بياض الوجه أشقر الشعر، وكان قد فتح عينيه وتحفز للوقوف كأنه أفاق من سكرة، وجعل يلتفت يمينًا وشمالًا كأنه يبحث عن شيء ضائع، فأشار الرئيس إلى الرهبان أن ينقلوا حسانًا إلى مكان لا يراه فيه داتوس، وأمسك بيد الشاب وخاطبه بلطف وباركه ودعا له وأشار إليه أن يمضي إلى غرفته، فمضى وهو لا يزال يلتفت ولكنه أمسك عن الكلام.