المسافة طويلة
مضى جانب من الليل وهما في ذلك وأبصارهما شاخصة إلى ما يتراءى لهما من رءوس التلال، وإذا هما بنور قد ظهر على مرتفع، فلما رأته سالمة أرادت أن تسأل الراهب عنه فابتدرها قائلًا: «ها نحن على مقربة من الدير يا سيدتي.»
ففرحت سالمة بذلك رغبة في الراحة، وكادت تنسى ما كانت فيه من الاضطراب التماسًا للسرعة.
وصار مسيرهما صعودًا على الآكام والبغلة دليلهما في ذلك الظلام، كأنها تسير وبين يديها المشاعل والأنوار، والفرس يتبعها وسالمة ممسكة بزمام الفرس خوفًا من أن تزل قوائمه، فزادها ذلك تعبًا، وبعد مسير ساعة على هذه الصورة، وصلا إلى سفح ذلك الجبل ولا يزال النور الذي شاهداه على نحو المسافة التي كان عليها عندما رأياه لأول مرة، وكانت سالمة تسمع في أثناء ذلك الصعود صدى حوافر فرسها فتتوهم أن فرسانًا سائرين في أثرها، ولم يكن يسليها في تلك الحال إلا ذكر السيد المسيح ورسم إشارة الصليب، وقد أصبحت لفرط قلقها لا تجرؤ على الالتفات إلى الوراء.
وأما الراهب فكان قد عاد إلى الصلاة واستغرق في الدعاء وبعد قليل رأت سالمة النور يقترب منهما، فتحققت أنهما صارا على مقربة من الدير فنشطت، ونسيت التعب ونادت الراهب قائلة: «لعلنا في آخر رحلتنا يا حضرة الأب؟»
قال: «وصلنا الدير يا ابنتي فاطمئني.»
ثم وصلا إلى سطح منبسط ينتهي ببناء عالٍ عرفت سالمة من شكله أنه دير فتحققت أنهما وصلا إلى المكان المقصود، ثم رأت نفسها تقترب من ذلك البناء حتى صارت بجانب الباب، وقد توارى النور الذي كانت تراه عن بعد، وإذا بالراهب قد ترجل ومشى نحو الدير وزمام البغلة في يده، وهي لا تزال على فرسها حتى وقف الراهب بجانب باب الدير، فأمسك بحبل مدلى بجانبه وشده فسمعت قرع الجرس ثم أطل بواب الدير من كوَّته وقبل أن يسمعا نداءه صاح الراهب باللغة اللاتينية قائلًا: «افتح سريعًا.» فكان كلامه بتلك اللغة أحسن وسيلة للتعريف، ولم تمضِ برهة وجيزة حتى فتح الباب وخرج منه راهب طويل القامة دقيق العضل، خاطب الراهب باللاتينية واستقبله فترجلت سالمة ودخلت إلى غرفة الضيوف، وهو يرحب بهما ويسأل الراهب عن سبب تأخره حتى دخلا الغرفة، ورجع البواب ثم عاد بشمعة مضيئة مغروسة في شمعدان من خشب عليه أثر الشمع القديم فوضعه في الغرفة وخرج ثم جاءهما بطعام، فجلست سالمة وقد أخذ التعب منها مأخذًا عظيمًا ونسيت ما هي فيه من الجوع، فقدم لها الراهب الطعام في قصعة فتناولت منه شيئًا ونفسها تطلب النوم أكثر من الطعام، فأكلت وشربت قليلًا من الخمر مع الماء وتوسدت الفراش، ولم توص الراهب بإيقاظها طمعًا في الراحة اللازمة، وتغافلت عن رغبتها في السرعة اعتمادًا على ما يتراءى للراهب من انتهاز الوقت.
وأما الراهب فلما رآها تنام صعد إلى غرفة البواب فجلس عنده قليلًا، وتحدثا في شئون كثيرة معظمها خارج عن موضوع المهمة التي ترغب سالمة في البحث فيها، وفي آخر السهرة استفسر الراهب، رفيق سالمة، عن أقرب الطرق إلى مدينة بواتيه.
فلما أجابه الراهب علم أنه كان على هدى من رأيه في خط ذلك المسير، وذهب إلى فراش أعدوه له في غرفة أخرى فنام، ولم يكد يتوسد الفراش حتى أحس بالتعب وغلب عليه النعاس فاستغرق في النوم ولم ينهض إلا عند الفجر، فهرول إلى سالمة فأيقظها وذهب إلى مربط البغال، وأحضر الفرس والبغلة فركبا وسارا يلتمسان بواتيه.
وأشرقت الشمس وهما لا يزالان بين الجبال لا يريان ما وراءها، وسالمة تحسب نفسها تائهة، ولولا ثقتها بمعرفة الراهب تلك الجهات لتحققت أنهما ضلا الطريق، ووصلا عند الضحى إلى رابية أطلا منها على سهل بعيد، رأيا في أحد جوانبه مدينة في منتصفها قبة عالية في قمتها صليب علمت سالمة أنها قبة كنيسة بواتيه، فانشرح صدرها ونسيت تعبها وقلقها وانبسط وجهها وقالت: «أليست هذه بواتيه؟»
فقال الراهب: «نعم يا ابنتي هذه بواتيه، وبعد قليل نصلها وندخلها بإذن الله.»
فقالت: «من أين ندخلها؟ إني أرى سورًا.»
قال: «ندخلها من بابها الجنوبي الذي ترينه وأمامه تلك الشجرة الكبيرة.»