خطر آخر
فانشرح صدر سالمة لوصولها ونجاتها من الخطر لاعتقادها أنها إذا دخلت مدينة بواتيه فلا خوف عليها ولكنها لم تكد تصل إلى الباب حتى رأت جماعة على خيول بملابس جنود الإفرنج قد خرجوا من الباب، وفي مقدمتهم فارس ملثم، وعلى رءوسهم الخوذ وعليهم الدروع، وقد تقلدوا السيوف المستقيمة بمناطق من جلد وتحت الدروع جبب قصيرة إلى الركب، وقد لفوا على سيوفهم لفافة من جلد وعلقوا بأكتافهم جعب النبال وتلثموا بخمر من الحلق المشتبك، ولم يظهر من وجوههم إلا العيون والأنوف والأفواه وبعض اللحى، فلما رأت سالمة ذلك الفارس الملثم عرفت أنه جاسوس الأمس فخفق قلبها لرؤيته، ثم ما لبثت أن رأته قادمًا نحوها والفرسان يتبعونه على عجل فازداد اضطرابها واستعاذت بالله، وأدنت فرسها من الراهب كأنها تحتمي فيه أو تنوي سؤاله عن شيء وقد امتقع لونها وتحققت من الخطر المحدق بها، وإذا بالفارس الملثم قد أومأ إلى رفاقه وأشار بإصبعه إليها كأنه يقول: «هذه هي فاقبضوا عليها.»
فأحاطوا بها وبالراهب أيضًا، فسألهم الراهب عن غرضهم فقالوا: «قد أمرنا بالقبض عليكما والسير بكما إلى حضرة الدوق أود.»
فقال: «وما الذي دعا إلى ذلك، وما نحن من أهل السياسة ولا الحرب فإني راهب وهذه امرأة أظنكم مخطئين.»
قالوا: «لسنا مخطئين هيا معنا طائعين، ولا فإنكما ذاهبان كرها.»
فلما تحققت سالمة من وقوع الخطر، ورأت أن نجاتهما مستحيلة من بين يدي أولئك الفرسان تجلدت وقالت: «أظنكم تلتمسون القبض عليَّ وليس على هذا الراهب، فأطلقوه وها أنا أسير معكم إلى حيث تشاءون، ولا حاجة إلى التهديد والوعيد.»
فتعجب الراهب من جرأتها ورباطة جأشها وحدثته نفسه أن يرفض النجاة بنفسه ويطلب البقاء معها، ولكنه رأى أن بقاءه لا ينفعها، وخشي لوم رئيسه فسكت ليرى ما يكون منهم فإذا بالفارس الملثم قد خاطب كبير الفرسان همسًا، فأشار هذا إلى الراهب بالانصراف، وأحاطوا بسالمة وساروا بها ولم يلتفتوا إلى الخلف.
أما هي فلما رأت نفسها في قبضة الإفرنج ولا حيلة لها في النجاة، تذكرت أنها تحمل رسالة من أسقف بوردو إلى أسقف بواتيه، فخشيت إن هم فتشوها أن يعثروا على الرسالة فيقع أسقف بواتيه تحت طائلة الغضب، فاحتالت ورمت الرسالة في مكان بحيث لا يراها أحد، ثم تذكرت المحفظة وفيها كل سرها فخفق قلبها خوفًا من وقوعها في أيدي أولئك الإفرنج، فجرَّها ذلك إلى التفكير في ابنتها وكيف تركتها في معسكر المسلمين، وتمثلت في ذهنها ميمونة وما كانت تخشاه من دسائسها، فترجح عندها أن ما أصابها إنما كان بإيعاز من ميمونة، إذ ليس في أكتانيا كلها من يعرفها أو يسيء الظن بها سواها ولكنها عادت فتذكرت أنها خرجت في تلك المهمة سرًّا، ولم تكاشف أحدًا بخروجها غير مريم، وقضت سالمة ساعة في تلك الهواجس وهي سائرة على فرسها والفرسان محيطون بها وفي جملتهم ذلك الجاسوس الملثم وكانت تسترق النظر إليه لعلها تستطيع معرفته؛ لأنها لو رأت وجهه لانكشف سر ذلك الأمر، ولكنه كان شديد الحرص على لثامه، على أنها تفرست في ثيابه فرأت بالرغم من أنها تبدو في الظاهر إفرنجية، فإنه يظهر من تحت ردائه القصير أن باقي الثوب ليس إفرنجيًّا، ورأت أن ما انكشف من ساقيه أسمر اللون، ولون الإفرنج مشرب بحمرة، فتحققت أنه جاسوس من خدم ميمونة، فندمت؛ لأنها لم تكشف أمرها للعرب لينجوا من حبائلها، وأصبحت من جهة أخرى، تخشى أن توقع المسلمين في شراكها أو تفسد أمرهم، فيذهب سعيها في نجاحهم أدراج الرياح، وودت لو أنها تستطيع إبلاغ ذلك إلى الأمير عبد الرحمن، فتأسفت؛ لأنها تركت حسانًا في الدير ولا تدري مع ذلك هل شفي جرحه، أم أصابه سوء بسببه، وتصورت كيف يكون حال ابنتها ووحيدتها إذا فشل المسلمون، فتراكمت عليها الهواجس وعظم الأمر عليها وغلبها اليأس، فانخرطت في البكاء خلسة، فلما بكت خف بعض ما بها، ولكن الأمر ما برح عظيمًا.
وما زالوا سائرين بضع ساعات وسالمة تتهيب مقابلة الكونت أود لئلا يعرفها فيكبر جرمها عنده ويكون ذلك خاتمة المصائب، فلما كثرت مشاغلها وهواجسها أخذ الأمر يهون عليها، وهو لم يهن حقيقة، ولكن الإنسان إذا وقع في مصيبة استعظمها وكاد ينوء تحت ثقلها، فإذا تراكمت عليه المصائب ساعده اليأس على احتمالها فكم من أرملة كان الناس يحسبون أنها ستموت ساعة موت زوجها، فلما مات لم تمت ولكنها أعظمت المصيبة فعزاها الناس ببقاء أنجالها، ثم أصيبت في واحد منهم، ثم بآخر ففرغت حيل الناس في تعزيتها ولكنهم رأوا أنفسهم — بعد حين — في غنى عن ذلك بما استولى على تلك الأرملة الثكلى من اليأس، كأن القلب يندمل من توالي الأحزان، أو أنه يعتاد المصائب فيستخف بها، وهكذا شأن من تحيط به المشاكل، تراه عند وقوعه في المشكل الأول أكثر ارتباكًا وخوفًا مما يصير إليه حاله عند تعددها، فكانت كلما تعددت مشاكلها هونت على نفسها.