الدوق أود
وفي أصيل ذلك اليوم أشرفوا على كرم وراءه سهل واسع، رأت في منتصفه قصرًا كبيرًا حوله الخيام وبينها الناس يعجون عجًّا، وفوق القصر علم عرفت حين رأته أنه للدوق أود فتحققت أنها وصلت إلى المكان المقصود، وأن القصر المذكور لبعض أغنياء البلاد هجره أهله في جملة ما هجروه، فنزل فيه أود وأقام رجاله في الخيام حوله.
وما زال الفرسان سائرين بها حتى وصلوا إلى باب القصر فترجلوا وترجلت، فسلموها إلى الحرس الواقف بالباب، فدخلوا بها إلى القصر وهي ملثمة بثوبها الأسود ومقنعة بخمارها الأسود، مشت بقدم ثابتة بين الحرس حتى تجاوزت باحة البيت إلى قاعة وقف الحرس ببابها، ودخل أحدهم ثم عاد وأشار إلى سالمة أن تدخل.
فدخلت إلى قاعة يظهر من سعتها وما على جدرانها من الرسوم الجميلة أن أصحاب ذلك البيت من أهل اليسار، ولم ترَ في أرض القاعة طنافس ولا مقاعد غير ما كان يحمله الجند في سفرهم، وشاهدت على كرسي في وسط القاعة رجلًا نحيف البدن ممتقع اللون أشقر الشعر أشيبه، أزرق العينين جاحظهما، غائر الفم بارز اللحية، منخسف الخدين بارز الوجنتين، وعلى رأسه قبعة عنابية اللون مزركشة بالذهب وفي مقدمتها فوق جبينه حلية مرصعة بالماس والياقوت بشكل الصليب، وعلى كتفيه بردة مزركشة بالقصب سماوية اللون تغطي ثيابه، وتحت البردة جبة قصيرة من القطيفة حولها منطقة عريضة منسوجة بالذهب على أشكال بعض الطيور، وحول ساقيه لفافة من جلد ملون له أهداب من الفرو، ونعلاه مشدودتان إلى قدميه بسيور من نسيج الشعر المتين، وقد جلس على كرسي ذي جناحين أسند زنديه إليهما، وقد ظهر من تحت البردة سلسلة ذهبية مدلاة من عنقه وفيها صليب من الذهب، فعلمت سالمة أنه الدوق أود؛ لأنها كانت تعرفه جيدًا وتعرف بعض الذين بين يديه من أمراء مجلسه.
وكان أود قبل دخول سالمة قد تناول من أحد جلسائه قدحًا فيه خمر وهم بشربه، فلما أمر بإدخالها وضع القدح على المائدة أمامه بين الأقداح الأخرى ومسح لحيته بيده ثم جعل يسرحها بأنامله، فدخلت سالمة وهو على تلك الحالة، وحالما وقع نظره عليها ظهرت البغتة في عينيه، ولولا اصفرار وجهه الطبيعي لبدت أيضًا في امتقاع لونه، ولم تكن سالمة أقل تأثرًا منه ولكنها كانت قد تجلدت وذهبت بغتتها فوقفت بين يديه وخرج الحرس ثم أومأ أود إلى أهل مجلسه فخرجوا جميعًا وبقي هو وسالمة.
فلما رأت سالمة نفسها وحدها زادت تهيبًا، فإذا هو قد أشار إليها أن تجلس فجلست على كرسي بين يديه جلوس متحفز للنهوض، فخاطبها أود بالإفرنجية قائلًا: «ألهذا الحد بلغ منك الغيظ؟»
فأجابت وهي تتجاهل: «وأي غيظ يا مولاي؟»
قال: «أتظنين أني نسيتك يا أجيلا؟»
فلما سمعت سالمة لفظ «أجيلا» ارتعدت فرائصها؛ لأنها لم تسمع أحدًا يناديها بهذا الاسم من زمن بعيد، ولكنها تجلدت وقالت: «أظن أن مولاي مخطئ في شأني، ولعله يقصد امرأة غيري.»
قال وهو يضحك: «أظنني واهمًا إذا كانت عيناي واهمتين، فهل تظنين أن قلبي واهم أيضًا؟ هل أنسى أجيلا وقد جرحت قلبي، وأساءت إلى سلطاني ولكنها أساءت إلى نفسها، ألم يكن من التعقل والحكمة أن تقلعي عن ذلك الجنون؟ أليس من العار عليك وأنت مسيحية مولودة في بيت من أكبر بيوت المسيحيين أن تتعاوني مع قوم غرباء لا دين لهم ولا ذمام وتساعديهم على أهل ديانتك؟»
قالت وهي لا تزال مطرقة: «لم أفهم يا مولاي مغزى كلامك كأنك تخاطب امرأة غيري، فإن الاسم الذي ناديتني به ليس هو اسمي، وإنما اسمي سالمة.»
فأغرق أود في الضحك حتى سمع قهقهته كل من في القصر، ومد يده إلى المائدة فتناول قدحه وشربه وهو ينظر إلى سالمة وهي لا تزال مطرقة، ثم أعاد القدح فارغًا ومسح فمه بيده وهو يقول: «ما لنا وللإنكار والإثبات، أخبريني يا سالمة — كما تسمين نفسك — ما الذي جئت من أجله إلى هذه المدينة، وما الذي فعلته عند أسقف بوردو؟»
فأدركت سالمة أنه مطلع على كل شيء من أمرها، فقالت: «وما الغرابة في زيارة امرأة مسيحية لأسقف كنيستها؟»
قال: «لا غرابة في الزيارة، ولكنني أسألك عما دار بينكما وعما حملك على الذهاب إليه.»
قالت: «لا يخلو أن يكون قد دار بيني وبينه حديث طويل في شئون سرية لا تهم أحدًا؛ لأن جماعة الأكليروس خزانة أسرارنا.»
قال: «لا أسألك عن اعترافك إليه فيما يتعلق بشئونك، ولكنني أسألك عما دار بينك وبينه بشأن الإفرنج والعرب والحرب والسلم.»