التهديد
فلما سمعت تصريحه لم يبقَ عندها شك في اطلاعه على سرها فأيقنت بالوقوع ويئست من النجاة، فساعدها اليأس على الجرأة فقالت: «يظهر أنك عالم بما دار بيني وبينه فلا حاجة إلى سؤالي.»
قال وهو يظهر الغضب: «أهكذا تجاوبين الدوق أود؟ هل بمثل هذه الجرأة تخاطبين دوق أكيتانيا؟»
فظلت سالمة ساكتة، ولكنها ابتسمت ابتسامة فهم أود منها ما هو أكثر صراحة من الجواب، فابتسم وكأنه ندم على ذلك التهديد فقال: «تلك أيام مضت وقد أردنا إرجاعك إلى مثلها فأبيت فأسأت إلى نفسك وإلى ابنتك ولا ذنب لها وإنما الذنب ذنبك فقد أردت أن تهوى ابنتك الذين تهوينهم أنت، وأن تبيع ديانتها وكنيستها جزافًا وأن يكون نصيبها مع أولئك المسلمين، وفي الحق أني لم أفهم سر ذلك العناد منك.»
فأيقنت سالمة أن أود مطلع على كل شيء كأنه كان معها في خيمة عبد الرحمن حينما صرحت له بسرها واستغربت اطلاعه على تلك الأسرار، ولم تجد لها خيرًا من السكوت أو الإنكار فقالت: «أراك لا تزال تخاطبني بالألغاز والإشارات والتلميح والتعريض فالذي تريد أن تعتقده فيَّ اعتقده وما تريد أن تفعله افعله.»
قال: «الذي أريد أن أفعله يا أجيلا سترينه رأي العين، ولو أظهرت هذه الوقاحة في مجلسي وبين أرباب حكومتي لما استطعت الإغضاء عن قتلك، ولكنني أسامحك الآن إكرامًا للحب القديم، أما الآن فقد تحول ذلك الحب إلى الغضب والانتقام، ويكفيني انتقامًا منك أن أريك حبوط مسعاك، فمتى رأيت الأرض مضرجة بدماء أولئك العرب والبرابرة، كنت مخيرة بين أن تموتي حسرة أو أن نقتلك بالسلاح الذي تختارينه.»
•••
قال ذلك ولحيته تضطرب، وعيناه قد كللهما الاحمرار من شدة الحنق والغيظ؛ لأن الإنسان إذا غضب ولم يشف غضبه بالضرب أو نحوه اشتد تأثيره، وقد يحاول إخفاء عواطفه بالكتمان ولكن العينين تبوحان بسر القلب على حد قول الشاعر:
فلما رأت سالمة غضب أود وتصريحه بما في قلبه من الغيظ مع علمها أنه فاعل معها ما يريده؛ لأنها أسيرة بين يديه، رأت أن السكوت أجدر بها لعلمها أن ما توهمه أود في نفسه من القدرة على العرب محال؛ لأنهم هزموه في عدة مواقع.
فلما رآها أود لا تزال ساكتة ازداد هو حنقًا فقال لها: «أراك لا تزالين صامتة!»
فقالت وهي تظهر التجلد وعدم الاكتراث: «وماذا عسى أن يكون جوابي لأمير حوله الجند والأعوان والعدة والسلاح، يهدد امرأة وحيدة لا نصير لها ولا سلاح في يدها، فالذي ترى أن تفعله أيها الدوق افعله!»
•••
وهم أود أن يجيبها، فسمع قرع الباب قرعًا عنيفًا، فدهش لذلك لعلمه أن أحدًا من أعوانه لا يجرؤ على إقلاق راحته في مثل تلك الحال، فنهض بنفسه مسرعًا إلى الباب وطليسانه يجر وراءه وقد حمي غضبه، ففتح الباب فاستقبله أحد رجال خاصته، فصاح قائلًا: «ما الذي حملكم على هذا القرع العنيف وأنتم تعلمون أنني في جلسة خاصة؟»
فقال: «العفو يا مولاي، إننا فعلنا ذلك بإشارة هذا الرسول فإنه قادم من سفر ومعه رسالة عاجلة في غاية الأهمية أوصاه مرسلها أن يسلمها إلى حضرة الدوق حال وصوله إلى معسكره، وإذا كان نائمًا فليوقظه من نومه.»
فبغت أود وقال: «أين هذا الرسول؟ دعه يدخل.»