الكتاب
فدخل رجل عليه لباس الإفرنج ولكن وجهه يدل على أنه من برابرة إفريقية، فلما شاهدته سالمة عرفت أنه من جند المسلمين وقد جاء متنكرًا أما هو فقد مد يده إلى جيبه وأخرج لفافة دفعها إلى أود، فتناولها وتراجع إلى كرسيه فجلس عليه، وفض اللفافة فإذا فيها منديل عليه كتابة فأخذ في قراءتها حتى أتى على آخرها، ثم عاود قراءتها ثانية والبغتة ظاهرة على وجهه.
وكانت سالمة تتغافل عن ملاحظة حركات أود وتسترق النظر إلى الرسول، فإذا هو يسترق النظر إليها وكأنه عرفها، وأما هي فعرفت أنه من رجال البربر، ثم ما لبثت أن رأت في عينيه حولا شديدًا فتذكرت أنها رأته في معسكر عبد الرحمن، فأدركت مصدر تلك الرسالة وودت لو يتاح لها الخلاص من ذلك الأسر لعلها تستطيع القيام بخدمة العرب.
أما الدوق أود فبعد أن فرغ من تلاوة الكتاب ثانية تظاهر بالإطراق والتفكير وهو ينظر خلسة إلى سالمة، يرقب حركاتها وما قد يبدو في وجهها، فرآها تبالغ في التجاهل وأحب أن يعود إلى البحث في شأنها لكنه رأى في ذلك الكتاب ما يدعو إلى سرعة العمل فأومأ إلى الرسول فخرج، ثم صفق فدخل إليه أحد غلمانه وبيده حربة ووقف متأدبًا، فأشار إليه أود أن يأخذ سالمة إلى غرفة منفردة من غرف القصر يحبسها فيها، ثم التفت إليها قائلًا: «إذا كنت مصرة على الإنكار والتجاهل، فاذهبي إلى حيث يقودك هذا الحارس وسننظر في شأنك.»
فنهضت سالمة ومشت، ولم تبدِ جوابًا فسار بها الحارس حتى خرج من باحة القصر إلى دهليز نفذ منه إلى باب أدخلها فيه، إلى غرفة ليس فيها إلا حصير وطنفسة ولها نافذة تطل على معسكر الإفرنج، فتركها الحارس هناك وأغلق عليها الباب فظلت هي واقفة تنظر إلى ما تطل عليه النافذة من الخيام المنصوبة، وبينها الرجال في ذهاب وإياب لقضاء حوائجهم، حتى إذا تعبت من الوقوف جلست على الطنفسة، وقد عظم عليها ذلك السجن مع ما يترتب عليه من عرقلة مساعيها، وودت لو أنها تطلع على نص تلك الرسالة لتعلم ما دبروه لها ولجند العرب ولكنها قالت في نفسها: «إذا لم يكن ثمة سبيل إلى خروجي من هذا المعسكر فما الفائدة من الاطلاع على الرسالة!»
وظلت على تلك الحال إلى الغروب وهي لم تذق طعامًا، وكانت لفرط مشاغلها لا تشعر بمرور الوقت، فلما غابت الشمس اسودت الدنيا في عينيها وتذكرت ابنتها، وميمونة، وعبد الرحمن، فتذكرت المحفظة فتفقدتها، فإذا هي لا تزال محفوظة تحت ثيابها لكنها أصبحت لا ترى فائدة منها وهي في تلك الحال بعيدة عن كل نصير، وخصوصًا خادمها، وقد تركته بين حي وميت، فغلب على ظنها أنه لم ينجُ من تلك الحمى؛ لأنها أصبحت بعد وقوعها في ذلك الشرك لا تتوقع غير توالي النحس، والإنسان إذا أصابته مصيبة انصرف ذهنه إلى استهدافه لسواها، وإذا صادف توفيقًا في عمل خيل له أن الأقدار قد أبرمت معه عهدًا ألا تأتيه بغير ما يرضاه.»
فاشتغلت بتلك الهواجس عما في ذلك القصر من ضوضاء الجند بين خارج وداخل، وعن غوغاء الناس في المضارب وخاصة ساعة الغروب وقد نفخ في البوق لدعوتهم إلى الطعام.