الطارق
وبينما هي مشتغلة في ذلك، إذا بقلقلة في مكان القفل بالباب، فأجفلت ونظرت إلى الباب فرأت من ثقبه نورًا في الخارج، ثم فتح الباب ودخل منه شاب بملابس الإفرنج في إحدى يديه شمعة مضيئة، وفي الأخرى قصعة مغطاة بشيء كالخبز، فعلمت أنهم جاءوها بالطعام، فأحست بالجوع ولكنها لم تتمالك أن صاحت: «من أنت؟»
فأجابها الشاب بصوت هادئ: «لقد جئتك يا سيدتي بطعام بأمر سيدي الدوق، وقد أوصاني أن أرجوك لتأكلي من هذا الطعام فإنه طعامه الخاص.»
فاستغربت سالمة هذا الإكرام منه بعد ما دار بينها وبينه، ولكنها سكتت وهي تنتظر ما يفعله الشاب فإذا هو قد وضع القصعة على الطنفسة ورفع الخبز عنها فرأت تحته شيئًا من الطيور المطبوخة وقد فاحت منه رائحة يشتهيها الشبعان، فكيف بالجائع! ولكنها أمسكت نفسها مخافة أن يكون في الطعام سم أو نحوه، وإن كان الجوع يدفعها إلى الأكل، فرأت أن تنظر في وجه الغلام لعلها تتوسم فيه ما يشجعها أو يحذرها، فرفعت بصرها إليه والشمعة لا تزال في يده وقد وقعت أشعتها على وجهه فاذا هو يختلف في سحنته ولون بشرته عن أهل تلك البلاد مع أن كلامه إفرنجي، فتبينت تقاطيع وجهه فإذا هو أسود العينين براقهما خفيف العضل أسمر البشرة خفيف اللحية صغير العارضين لحداثته، وتدل ملامحه على أنه ليس إفرنجيًّا فلم تستغرب ذلك لعلمها بما كان يدخل بلاط الملوك في تلك الأيام من الأسرى والمماليك من أمم مختلفة فتفرست في وجهه لترى ما قد يزيل الشك الذي ساورها من أمر الطعام، فلم ترَ في وجه الغلام ما يدعو إلى الخوف، لكنها أرادت أن تتحقق من ذلك من سماع كلامه فقالت: «ما اسمك أيها الشاب؟»
قال: «اسمي رودريك يا سيدتي.»
فلما سمعت ذلك الاسم، خفق قلبها وأجفلت وتصاعد الدم إلى محياها بغتة، لكنها انتبهت لنفسها في الحال وحولت نظرها إلى القصعة ومدت يدها إلى الخبز وتشاغلت بتقطيعه بهدوء وسكينة، والغلام واقف وقد لحظ منها ذلك الاضطراب فلم يفهم له سببًا سوى أنها تحتاج إلى أمر وقد منعها الحياء من طلبه، فانتبه للحال أنه لم يأتها بالماء للشرب فابتدرها قائلًا: «أظنك تحتاجين إلى الماء؟»
ثم وضع الشمعة على البساط وخرج، وقد ترك الباب مفتوحًا، ففهمت سالمة أنه ينوي الرجوع بعد قليل.
ولم تمضِ هنيهة حتى سمعت وقع أقدامه ثم دخل وبيده كوب فيها ماء وضعها أمامها وهو يبتسم، وكان قد سكن اضطرابها فنظرت إليه فأحست بارتياح إلى رؤيته، واستأنست به، فشكرت عنايته وودت لو أنه يتولى أمرها دائما.
•••
أما هو فوضع الكوب وخرج، وأغلق الباب من ورائه إغلاقًا خفيفًا كأنه عازم على الرجوع.
فتناولت سالمة بعض ما في القصعة، وشربت الماء وهي تفكر فيما آنسته من ذلك الغلام من الود، ولبثت بعد فراغها من الطعام تنتظر رجوعه، وبعد قليل سمعته وهو يمشي الهوينا، ثم دخل يحمل غطاء ثقيلًا ووسادة فألقاهما على الأرض وهو يقول: «هذا غطاء ووسادة وقد أوصى مولاي الدوق بهما لك.»
فتناولتهما وقالت له: «أشكر عنايتك أيها الشاب وأرجو أن أستطيع مكافأتك، وعسى ألا يتولى أمري من أهل هذا المعسكر سواك، وإن كان في ذلك إثقال عليك.»
فأجابها رودريك وهو يبتسم: «وأنا أرجو ألا يتولى ذلك سواي؛ لأني أخشى أن يتولاه من لا يعرف قدرك، فلا يحسن خدمتك.»
فأدركت سالمة من ذلك أنه يعرف شيئًا عنها فتجاهلت وسكتت أما هو فإنه أخذ القصعة والكوب وتحول نحو الباب، وهو يقول: «وسترينني رهن إشارتك وسأبذل أقصى الجهد في خدمتك فليطمئن بالك.» ثم أغلق الباب وخرج.
•••
وبعد خروجه شعرت سالمة بارتياح أنساها بعض ما بها من الاضطراب، فافترشت جانبًا من الغطاء وتغطت بباقيه وتوسدت تلتمس النوم، وكانت قد شعرت بالتعب على أثر ما قاسته في ذلك اليوم وما قبله، فغلب عليها النعاس فنامت نوما عميقًا.
ولما أفاقت جاءها رودريك بطعام الصباح وتولى خدمتها في كل ما تحتاج إليه، وتفرست فيه على ضوء النهار فتحققت من أنه بعيد الشبه عن الإفرنج وقريب الملامح من العرب، ولكنها رأته يتكلم الإفرنجية مثل أهلها واسمه إفرنجي فعزمت على استطلاع حقيقته بعد أن تأنس فيه ثقة بها، مخافة أن تبدو منها كلمة تزيد نقمة أود، إذا هي بلغته.