السفر
قضت سالمة في ذلك الأسر أيامًا وهي ترقب حال أهل القصر لعلها تجد سبيلًا للفرار، فإذا هم شديدو العناية بحراستها، كثيرو التضييق عليها وكان جماعة منهم موكلين بحراستها ومراقبة حركاتها، فعلمت أن أود مع تغيبه عنها وإهماله مقابلتها شديد الحرص على استبقائها في ذلك السجن.
فلما طال بقاؤها على تلك الحال سئمت الإقامة وتزايد قلقها على جند العرب لعلمها أنهم في انتظارها على مثل الجمر، ولكنها لم تكن ترى بأسًا من تأخرها عنهم؛ لأنها توقن بأنهم فائزون في فتحهم حتى يبلغوا بواتيه، ثم هي لا تخاف عليهم أود وجنده؛ لأنه غلب غير مرة على أنها كانت تخاف على مريم من غدر ميمونة، ثم هي رجحت أن الكتاب الذي جاء به ذلك الأحول إنما هو من ميمونة، ولكنها لم تفهم فحواه تمامًا فلبثت تتوقع فرصة للاطلاع على ذلك من رودريك.
وأصبحت ذات يوم فسمعت ضوضاء الجند على غير عادتهم، فأطلت من النافذة فرأتهم يقوضون الخيام وقد أخذوا في التأهب للسفر، فانشغل خاطرها وأوجست خيفة من ذلك الانتقال، لكنها رأت في ذلك سبيلًا لمخاطبة رودريك فيما قد يكشف لها شيئًا من ذلك السر، فلما جاءها في ذلك الصباح ومعه الطعام ابتدرته قائلة: «مالي أراكم تتأهبون للسفر، هل أنتم مسافرون جميعًا أم أن بعضكم سيبقى هنا؟»
قال: «إننا مسافرون جميعًا، وقد أمر حضرة الدوق أن تسيري معنا.»
قالت: «وإلى أين؟»
قال: «إلى تورس على نهر لوار.»
فلما سمعت قوله استغربت ذلك الانتقال لعلمها أن النهر المذكور هو آخر حدود أكيتانيا، والبلاد التي وراءه تحت سلطة شارل دوق أوستراسيا وهي تعلم أيضًا أن بين أود وشارل منافسة ومزاحمة على النفوذ، وربما كان شارل أكثر حرصًا على صد أود عن بلاده من حرص العرب على فتح أكيتانيا فقالت: «هل أنت على يقين من ذهابهم إلى تورس؟»
قال رودريك: «نعم يا مولاتي وقد سمعت الأوامر الصادرة لنا بالذهاب.»
قالت سالمة: «ألا تعلم بما بين الدوق أود ودوق أوستراسيا من المنافسة؟»
قال: «بلى ومن يجهل ذلك؟»
قالت: «فما الذي يفعله الدوق أود في تورس إذن؟ ألا يخاف عدوه شارل؟»
فلما سمع رودريك سؤالها، تلفت نحو الباب كأنه يحاذر أن يراه أحد، ثم نظر إلى سالمة وهو يقول بصوت خفيض: «إن لذلك سرًّا لم يطلع عليه إلا نفر قليل من هذا الجند، وأخشى إن بحت به أن يلحقني أذى.»
فتوسمت في وجه الغلام خبرًا مهما، فتاقت نفسها لسماعه فشجعته، وقالت: «ما الذي تخشاه من أسيرة سجينة، ربما لا يهمها من أمر هذا الخبر شيء، ولكنني أحببت الاطلاع على هذا السر لغرابته وقد شجعني على هذا السؤال ما شاهدته من مؤانستك ولطفك في هذه المدة، ومع ذلك فإني لا أظنك أحرص على مصلحة هذا الجند مني؛ لأنك على ما يظهر لي لست منهم.»
فلما قالت سالمة ذلك بدت البغتة على وجه رودريك وقد تحولت سحنته إلى غير ما كانت عليه فتنهد وقال: «لقد أدهشتني فراستك فيَّ؛ لأنك اطلعت في أيام على ما لم يستطع كشفه أحد من أهل هذا المعسكر في أعوام.»
فاستبشرت سالمة بذلك التلميح وقالت: «يظهر لي أني قد أصبت الفراسة فكلانا إذن يرمي إلى غرض واحد، فأخبرني عما حمل أود على الذهاب إلى تورس ولا تخف، وأرجو أن يكون لك من وراء ذلك خير.»
فقال: «أما السبب في هذا الانتقال فهو أن العرب حاربونا ونحن قرب بوردو فغلبونا، وقد بلغنا الآن أنهم قادمون إلى هنا.»
فقطعت كلامه وقد سرها أن غيابها لم يؤخر العرب عن التقدم في الفتح، وأيقنت أنهم لم يلاقوا في طريقهم مقاومة كبيرة من أهل البلاد، فقالت: «فالإفرنج إذن يطلبون تورس فرارًا من العرب؟»
قال: «لا يخلو الأمر مما ذكرت ولكنهم يطلبون تورس للدفاع وليس للفرار.»
قالت سالمة: «وبماذا يدافعون وعدوهم هناك أشد وطأة عليهم من العرب؟»
قال رودريك: «كان الأمر كذلك من قبل ولكنه أصبح الآن حليفًا لهم.»
فقالت سالمة: «وكيف ذلك والمنافسة متمكنة بينهما؛ لأن كلًّا منهما يطلب السيادة على الآخر بعد أن رأيا انحلال الدولة المرونجية التي كانت تجمعهما تحت سيطرتها، وقد علمنا أن الفائز منهما ستكون له الدولة والملك على الدوقيات كلها، فزادت المنافسة بينهما حتى صار يتمنى كل منهما أن يفتك بالآخر.»
قال رودريك: «هذا هو الواقع فعلا، وهذا الانقسام هو الذي مكن المسلمين من فتح أكيتانيا حتى وصلوا إلى هنا، وإذا قطعوا نهر لوار أصبحت بلاد أوستراسيا في قبضتهم على أهون سبيل؛ لأن أساقفتها ناقمون على الدوق شارل نقمة شديدة وقد يحرضون الشعب على خلعه، فإذا جاءهم العرب وهم في تلك الحال ساعدوهم على الفتح.»
فلما سمعت سالمة ذلك خفق قلبها سرورًا بما ترجوه من فوز العرب هناك، ولكنها لم تثق بصدق تلك الرواية فقالت: «وما هو سبب نقمة الأكليروس على شارل، وهو قائد عظيم؟»
قال: «السبب يا سيدتي أنه أخذ أموالهم واستولى على أملاك الأديرة ووزعها على جنده، وأهان بعض الأساقفة بالقصاص، وفضل بعض صغار الكهنة عليهم ولا يخفى عليك ما يؤدي إليه ذلك.»
فلما تحققت من غضب الأساقفة على شارل عادت إلى السؤال عما دعا إلى نصرة شارل لأود فقالت: «ولكنني لم أفهم كيف صار شارل حليفًا للدوق أود فهل فعل شارل ذلك من تلقاء نفسه خوفًا من الأساقفة؟»
فقال رودريك: «كلا يا سيدتي ولكن الدوق أود لما أيقن بعجزه عن دفع العرب عن بلاده، لم يرَ بدًّا من نصرة عدوه شارل.»
فقالت، وقد بغتت: «وكيف نصره، وفي انتصاره خروج هذه البلاد من يده لا محالة؟»
قال: «لا أظنه يجهل ذلك ولكنه فعله مضطرًا بحكم الضرورة، ففضل أن تئول البلاد إلى أمير مسيحي من أن تئول إلى قوم غرباء دينًا ووطنًا، ولعله مطمئن لما يعلمه من اشتغال شارل بنقمة الأساقفة ثم إني لا أظنه قد نصره إلا مدفوعًا بمشورة بعض ثقاته.»
قالت: «ومن يجرؤ على هذه المشورة من رجاله؟»
قال: «المشورة لم تأته من هذا المعسكر ولكنني علمت بكتاب جاءه في اليوم الذي سجنك فيه وفي ذلك الكتاب تحريض على استنجاد شارل، والظاهر أنه أثر فيه كثيرًا فحالما قرأ الكتاب بعث وفدًا إلى شارل يطلب إليه مساعدته في هذه الحرب فأتاه الجواب بالإيجاب.»