الاستطلاع
فلما سمعت قوله ثبت لديها أن المحرض على ذلك هو ميمونة، فاستعاذت بالله، ولكنها كتمت خواطرها وتجلدت؛ لأنها لم تكن تثق برودريك وهو لم يكاشفها بحقيقة أمره، فأحبت قبل الإفاضة في هذا الموضوع أن تستطلع الحقيقة، فقالت والاهتمام ظاهر على وجهها: «أراك يا رودريك قد كاشفتني بأمور ذات بال مما يدل على ثقتك فيَّ، فاعلم أن ثقتك في محلها وإذا كنت تؤمن بإخلاصي لك، فكن على يقين بأني باذلة نفسي في مكافأتك، على أني لا أزال أعلل نفسي بالاطلاع على حقيقة أمرك؛ لأني على ثقة أنك لست من أهل هذا المعسكر.»
قال: «لا ريب عندي في إخلاصك ولولا ذلك ما خاطبتك بما خاطبتك به، والأمر الذي تتمنينه هو الذي أتمناه أنا أيضًا وهذا ما شجعني على هذه المكاشفة.»
فأدركت سالمة أنه على مبدئها، فازدادت ميلًا إلى استطلاع حقيقته، فقالت: «فأطلعني على حكايتك لنتعاون على النجاة بإذن الله.»
قال: «ولكنني أطلب إليك أن تخبريني عن أمر لاحظته منك في أول ساعة خاطبتك فيها هل أسألك عنه؟»
قالت سالمة: «وما هو؟»
قال: «لما سألتني عن اسمي وعلمت أنه رودريك رأيت في وجهك أثر البغتة، فهل كان ذلك بسبب اسمي أم لسبب آخر؟»
فتظاهرت سالمة بعدم الاكتراث وقالت: «لا أذكر أني بغت لشيء من هذا القبيل.»
فصدق وسكت.
أما هي فلبثت ساكتة تنتظر جوابه على سؤالها عن حكايته فرأته يلتفت نحو النافذة كأنه يرقب حركة أو يتوقع قادمًا، فالتفتت هي فلم ترَ غير الجند وهم لا يزالون في اهتمامهم بالحزم والربط والاستعداد للرحيل فحولت بصرها إلى رودريك فرأته يهم بالجواب وهو يتردد فقالت: «يظهر أنك تحاذر شيئًا.»
قال: «كلا يا مولاتي ولكنني أخشى أن يدهمني الوقت وأدعى إلى السفر قبل الفراغ من حكايتي؛ لأنها طويلة.»
قالت: «قل لي باختصار إذن، هل تعرف اللغة العربية؟»
قال: «كلا.»
فتوهمت سالمة أنها أخطأت الفراسة فيه؛ لأنها كانت قد توسمت من ملامحه أنه عربي فقالت: «هل تتكلم لغة غير الإفرنجية؟»
قال: «أعرف اللغة البلغارية، وهي لغة حداثتي.»
قالت: «فإذن أنت بلغاري الأصل ولكن ملامحك لا تدل على ذلك.»
قال: «لست من بلغاريا، ولكني ربيت في بيت رجل من البلغار.»
قالت: «وكيف تعلمت لغة الإفرنج؟ ويظهر أنك تتكلمها جيدًا كأنك تعلمتها في صغرك.»
قال: «تعلمتها من طول الممارسة؛ لأن الرجل البلغاري الذي رباني باعني لبعض الإفرنج ثم انتقلت إلى الدوق أود بالمقايضة.»
فاستغربت ما سمعته، ورأت أن أسئلتها لم تُجْدِ نفعًا، وكانت تتوقع بها قرب الوصول إلى الغرض فإذا هي تبتعد عنه فعمدت إلى الاختصار والتصريح فقالت: «قل لي أين ولدت؟»
قال رودريك: «ولدت في طليطلة.»
قالت: «أنت إذن إسباني؟»
قال رودريك: «كلا.»
قالت: «فأنت عربي؟»
فسكت وقد ظهر في وجهه ملامح الخوف.