منظر هائل
فأدركت أنه يخشى التصريح لقلة ثقته بها؛ لأن ملامحها بعيدة جدًّا عن ملامح العرب فقالت: «لا تخف يا شاب فإنك تخاطب امرأة لا تحب غير العرب، ولكن حديثك أدهشني فكيف تقول إنك ربيت في بلاد البلغار، ثم تقول إنك ولدت في طليطلة والمسافة بين البلدين بعيدة جدًّا، أظنك واهمًا فيما تقول، أو لعل الذي أنبأك بمولدك قد خدعك أو كذب عليك؟»
فقال: «إني على ثقة من ذلك؛ لأني عشت في طليطلة بضع سنوات، ولا أزال أذكر بعض مناظرها كأنها خيال.»
قالت بلهفة: «أتذكر مناظر طليطلة؟ ما الذي تذكره منها؟»
قال: «أذكر قصرها الكبير على نهر التاج وحوله الحدائق، وأذكر حديقة ذلك القصر؛ لأني كثيرًا ما كنت ألعب فيها مع بعض الرفاق على ضفاف ذلك النهر.»
قالت وفي وجهها معنى لو رآه لعلم أنها بغتت لذكر طليطلة وقصرها، وأنها كانت تغالب عواطفها لئلا يظهر ذلك في وجهها: «فأنت إذن من أبناء ذلك القصر وما الذي تذكره أيضًا؟»
قال: «لا أذكر غير ذلك القصر؛ لأني أخرجت من طليطلة وأنا طفل، ولولا ما شهدته من الأمور المخيفة لم تبق صورته في ذهني، قالت: «وما الذي شهدت فأخافك وأنت طفل؟»
قال: «شهدت مقتل أمير الأندلس.»
قالت: «ألا تتذكر اسمه؟»
قال: «لم أكن أعرف اسمه يوم مقتله، ولكنني علمت بعد ذلك أنه عبد العزيز بن موسى بن نصير الذي فتح بلاد الأندلس للعرب.»
فلما قال ذلك كادت تظهر الدهشة على سالمة لو لم تتجلد وتشغل رودريك بمواصلة السؤال، قائلة: «وما الذي تذكره من أمر مقتله؟»
قال: «أذكر أني كنت في أحد شهور سنة ٩٧ للهجرة ألعب في حديقة القصر، وأنا في نحو الخامسة من عمري ومعي طفلة أصغر مني كنت ألاعبها ومعنا الخدم؛ لأنها بنت الأمير عبد العزيز وقد ربينا معًا، وبينما نحن في ذلك، إذ رأيت الخدم في هرج ومرج وقد وقفوا وقفة الاحترام، فأسرعت للفرجة وبجانبي ابنة الأمير، وإذا بالأمير عبد العزيز قد خرج من القصر ومر بالحديقة وعليه القباء والعباءة ووراءه جماعة من أرباب العمائم، فلما دنا منا مد يده إليَّ ولمس رأسي على سبيل الملاطفة وقال كلمة لا أذكرها، فتأثرت لمنظره؛ لأنها أول مرة رأيته في مثل ذلك الموكب، فسألت عن مسيره فقالوا إلى المسجد للصلاة، فلم يهمني الأمر فعدت إلى اللعب، ولم يمضِ قليل حتى سمعت ضوضاء الناس وقد جاء بعض الغلمان وحملوا الطفلة بسرعة وتركوني، فخفت؛ لأن الحديقة أصبحت خالية ولم يعد فيها أحد سواي، فأخذت في البكاء ثم رأيت الناس يعدون من جهة المسجد عدوًا سريعًا، وأخيرًا رأيت منظرًا أثر في ذاكرتي تأثيرًا لا يمحوه كرُّ الأيام، ولا أذكره إلا اقشعر بدني، شهدت جماعة يعدون في أثر الناس نحو القصر وفي مقدمتهم رجل يحمل رأس إنسان وقد قبض عليه من شعره والدم يقطر منه، ويد الرجل وثيابه قد تلطخت بالدم ونظرت في ذلك الرأس فإذا هي رأس الأمير عبد العزيز فاستغرقت في البكاء، وليس من ينتبه لبكائي لانشغال الناس عني بشئونهم، وأذكر أني بقيت في ذلك المكان إلى الغروب، ولم ينتبه لي أحد ثم جاء جدي فحملني وصعد بي إلى ذلك القصر إلى حجر والدتي على أننا لم نبق في طليطلة بعد ذلك الحادث إلا بضعة أيام ثم انتقل والدي بي وبأمي إلى الشام.»
وكان رودريك يتكلم وسالمة شاخصة فيه، وعيناها تكادان تجمدان في وجهها ملامح الاضطراب مع اصفرار الدهشة وانقباض الحزن ورودريك يزداد مبالغة في وصف هول ما شاهده، فلما فرغ من حديثه رأى دمعتين انحدرتا من عيني سالمة، فحمل ذلك منها محمل التأثر والانفعال من مثل ذلك الحديث ولو كان السامع غريبًا.
أما سالمة فجاش في خاطرها أمور قضت بضع عشرة سنة في الصبر على كتمانها وكادت تحدثها نفسها بالتصريح، لو لم يغلب عليها التعقل والصبر فأمسكت وعادت إلى إتمام حديث رودريك فقالت: «إن حديثك غريب وقد أزعجني، فأخبرني عما تم بعد ذهابكم إلى الشام وكيف وصلت إلى بلاد البلغار.»
فقال: «أظنك سمعت بمسير العرب لفتح القسطنطينية منذ بضعة عشر عامًا، وإني لأستغرب الآن بعدما شهدت تلك المدينة وعرفت حصونها وقلاعها كيف أقدم العرب على فتحها.»
فقطعت سالمة كلامه قائلة: «إن الغرض من الذهاب لفتحها الوصول إلى هذه الأرض من ذاك الطريق فيلتقي فاتحو القسطنطينية بفاتحي الأندلس هنا، ويتم للمسلمين فتح هذه الأرض الكبيرة، وفي فتحها يتم للعرب امتلاك العالم كله ألا تراهم لما أعجزهم فتح القسطنطينية كيف أعادوا الكرة لفتح هذه البلاد من هذا الطريق؟»
فتعجب الشاب من سعة اطلاع سالمة على تلك الأحوال وزاد استئناسًا بها فأتم حديثه قائلًا: «أقص عليك خبري ليس كما أدركته حين حدوثه إذ كنت طفلًا، ولكني أقصه كما فهمته بعد ذلك فاعلمي أننا وصلنا إلى الشام فلم نجد الخليفة فيها، ولم أكن أعرف اسمه.»
فقطعت سالمة كلامه قائلة: «هو سليمان بن عبد الملك الرجل الأعرج الأكول الذي أكل سبعين رمانة وجديًا وست دجاجات في أكلة واحدة وختم الطعام بأرطال من الزبيب، وقد كان الأجدر به أن يقيم نفسه خليفة على المطابخ وليس على الناس فيقتل الأمراء ويسفك الدماء.» قالت ذلك وهي لا تتمالك نفسها عن إظهار الغضب.
أما رودريك فعاد إلى حديثه وهو يختصر خوفًا من أن يطلبه أحد قبل الفراغ منه، فقال: «وسألنا عن الخليفة فقالوا إنه خرج بحملة من الرجال إلى قنسرين، وأعد جيشًا كبيرًا ليسير إلى القسطنطينية بقيادة أخيه مسلمة، وكان الناس يعلقون الآمال على ذلك الفتح والكل يثق بالفوز ولست أدري ما الذي دعا إلى هذه الثقة.»
فقالت: «سبب هذه الثقة اعتزاز العرب بما فتحوه من الممالك واعتقادهم أن العالم سيكون كله لهم، وقد ساعدهم على ذلك ثقتهم بمسلمة؛ لأنه من كبار القواد وقد تمت فتوح كثيرة على يده.»