حصار القسطنطينية
فقال رودريك: «وكان والدي من أكثر الناس ثقة بذلك، فلما دعوه إلى مرافقة تلك الحملة لم يرضَ إلا أن يأخذ والدتي ويأخذني معه لاعتقاده أنهم سيفتحون القسطنطينية، وأنه باق هناك أو فيما وراءها من البلاد، وكان والدي من المقربين إلى مسلمة؛ لأنه كان يعرف اللغة اليونانية وقد تعلمها في بعض أسفاره إلى بلاد الروم وهو شاب، فكان مسلمة إذا نزلت الحملة أنزلنا في فسطاطه ونزلت أنا ووالدتي في خباء نسائه، وكانت تلك الحملة الهائلة حملتين واحدة برية، وأخرى بحرية، وكان عدد جند البر الذي نحن فيه ١٢٥٠٠ مقاتل وفيهم العرب والفرس وغيرهما وأكثرهم من راكبي الأفراس أو الجمال، وكانت الحملة البحرية — على ما بلغني بعد ذلك — ١٨٠٠ سفينة، استقدمها مسلمة من سواحل مصر والشام والأندلس وفيها المئونة والذخيرة، فمشى جنود البر كأنهم غابة من الناس والدواب، فمررنا بتيانة وعمورية وبرغاموس ففتحوها وسلَّم من كان فيها من الروم أو فروا، واستولى المسلمون على أسلابهم وأموالهم، وكانت تلك الحملة تزداد ثقة وتتسع آمال رجالها كلما تقدمت؛ لأنهم لم يمروا ببلد إلا فتحوه ونهبوه حتى وصلنا إلى حدود آسيا من جهة خليج القسطنطينية، وهو الفاصل بيننا وبينها، وكانت الحملة البحرية قد وصلت إلى هناك، فاستخدمنا بعض سفنها في نقل الرجال والأحمال من شاطئ آسيا إلى شاطئ القسطنطينية عند مكان يسمونه «أبيدوس» وهي أول مرة قطع جند المسلمين فيها ذلك الخليج، على أننا قاسينا في ذلك السبيل مشقة كبرى وكدت أغرق مع والدتي، ولكن العناية الإلهية أرادت بقائي لزيادة شقائي.»
فقالت سالمة بصوت منخفض: «لا بل أرادت العناية ببقائك خيرًا يتم على يدك؛ لأناس أنت تحبهم.» فأخذ رودريك في إتمام الحديث فقال: «وبعد أن قطعنا ذلك الخليج بأفراسنا وجمالنا وأحمالنا نزلنا إلى الشاطئ ودرنا حتى أقبلنا على القسطنطينية من جهة الغرب فعسكرنا هناك في سهل واسع، وحفرنا حولنا خندقًا وبنينا سورًا من التراب، وأقمنا للحصار ونحن في شبه مدينة كبيرة فيها كل ما نحتاج إليه من المؤن والذخائر، وهذه أول مرة أشرفت فيها على تلك المدينة الهائلة وكنت صغيرًا لا أفقه معنى العظمة، ومع ذلك فقد هالني علو أسوارها وما على تلك الأسوار من أدوات للحرب، علمت ذلك مما كانوا يرشقوننا به فيما بعد من النبال والحجارة بالمجانيق، وهناك شاهدت أهوال الحرب لأول مرة، فقد كنت أصعد إلى سورنا حتى أشرف على أسوار المدينة، فأرى النبال مغروسة في جدار سورنا مثل ريش القنفد وبعضها ملقى في السهل بيننا وبينهم حتى إني كثيرًا ما كنت — وأنا ألعب أمام خيمة مسلمة — أرى النبال تتساقط حولي فألتقطها، ولم تكن تهمني، وكنت لا أزال أحسب الحرب لعبة حتى شاهدت ذات يوم أمرًا لم أجسر بعده على الخروج من خباء والدتي.
وذلك أنني صعدت مرة على سور معسكرنا للفرجة كالعادة فرأيت شيئًا تطاير عن سور القسطنطينية نحونا أشبه بشعلة متقدة كأنها كوكب مذنب حتى وقعت خارج السور، فتبعثرت وأشعلت مساحة كبيرة من العشب اليابس هناك وتطايرت منها رائحة حادة، فذعرت وأسرعت إلى والدتي وأنا في تلك الحال وأخبرتها، فأخبرتني أنهم كثيرًا ما يطلقون هذه النار فتحرق ما تصيبه، فلم أعد أجسر على الاقتراب من السور، ثم علمت بعد ذلك أنها ما يسمونه «النار اليونانية» وأظنهم انتصروا علينا بتلك النار؛ لأنهم أحرقوا بها أسطولنا من جهة البحر، وكانت الريح قد ساعدت الأسطول المذكور حتى دخل الخليج تجاه المدينة من جهة الشرق، وكان لوصوله تأثير شديد على قلوب الروم، وقد أخبرني بعد ذلك بعض الذين كانوا داخل المدينة في أثناء الحصار أنهم كانوا إذا أطلوا على البحر رأوا أسطولنا كأنه غابة أشجارها الأشرعة والسواري لا يقف البصر على آخرها، وإذا نظروا من جهة البر رأوا معسكرنا كأنه بحر أمواجه الناس والدواب وسفنه الخيام والأعلام.
وقد ساعدنا الحظ في أن السلسلة التي تعود قياصرة الروم قطع مدخل القسطنطينية بها عند قرن الذهب في مثل هذه الحال كانت محلولة، وتحدث الأمراء في اغتنام هذه الفرصة والدخول في ذلك الخليج، فأشار عليهم بعض العارفين بالتوقف برهة لئلا يكون في الأمر دسيسة، ولكنهم مع ذلك اقتربوا من الشاطئ كثيرًا فما شعروا إلا والأسطول اليوناني يقترب منهم فتهيئوا للدفاع، وإذا بهؤلاء يطلقون عليهم النار كأنها خارجة من نوافذ جهنم، فأحرقت معظم السفن، والذين نجوا منها جاءونا وهم ينادون بالويل والثبور وقد مات منهم كثيرون.
فأصبح أسطولنا بعد ذلك لا نفع فيه وتحولت الأنظار إلى قوة البر، وكان مسلمة يتوقع أن يمل أهل القسطنطينية من طول الحصار وتقل عندهم المئونة فيضطروا إلى التسليم، وقد أطمعنا في ذلك أننا بعد الحصار ببضعة أشهر بعث الروم إلى مسلمة يعرضون عليه أن يعطوه على كل رأس دينارًا وينصرف، فطمع وأبى إلا أن يفتحها عنوة أو يستسلم أهلها جوعًا وأما نحن فكان مسلمة قد أعد لنا كل ما يلزم للزرع والحصاد، فقضينا الشتاء والصيف، فزرعنا ورعينا الماشية ونحن نتوقع أن يمل أهل القسطنطينية فما رأيناهم ملوا، وقد حاصرناهم سنة وبعض السنة، وعلمت بعد ذلك أن ملك القسطنطينية يومئذ واسمه أناستاسيوس أو أرتميوس قبض على زمام الملك وليس هو من عائلة القياصرة ولكنه كان حكيمًا عاقلًا، فلما عاد إليه سفيره من دمشق بخبر الحرب وقدوم العرب عليه برًّا وبحرًا علم أن العرب سيحاصرونه فأعلن أهل القسطنطينية أن كل من لا يستطيع اختزان مئونة تكفيه ثلاث سنوات فليخرج من المدينة فاشتغل الناس باختزان الحنطة والحبوب ورمموا الأسوار واستعدوا للدفاع والحصار، ولذلك فقد مللنا نحن قبلهم؛ لأننا كنا نتوقع نجدة من الخليفة في مرج دابق، فمات ولم تصلنا النجدة.»
فقطعت سالمة كلامه قائلة: «هل تعرف سبب موته؟»
قال: «كلا.»
قالت: «لقد مات شهيد الشراهة مات من التخمة وذلك أن أحد نصارى دابق أتاه بزنبيلين مملوءين تينًا وبيضًا، فأمر من يقشر له البيض وجعل يأكل بيضة وتينة حتى أتى على الزنبيلين ثم أتوه بمخ وسكر فأكله، فأصيب بالتخمة ومرض ومات.»