سوق الرقيق
فقضيت في ذلك بضعة أعوام وقد تعلمت اللغة البلغارية، وتعودت عاداتهم في الطعام والشراب والصلاة ونحوها، ونسيت لغة أمي وديانتها، فلما بلغت الثانية عشرة حملوني في جماعة من الأحداث، كانوا قد جمعوهم من أعالي بلاد الصقالبة وساقوهم، وفيهم الذكور والإناث ولا كساء عليهم غير الجلود، وشعورهم مرسلة كأنهم كانوا يقتاتون على نبات البرية ويعاشرون حيواناتها، فجمعونا معًا وشدوا أيدينا بعضها إلى بعض بأمراس، وساقونا فمشينا بضعة أيام على تلك الحال ونحن نساق كالأنعام حتى وصلنا إلى بقعة رأينا فيها ازدحامًا من كثرة الناس والخيول والماشية والأحمال، فسألنا عن المكان فقالوا: إنه سوق عمومي يجتمع فيه الناس من أقاصي البلاد للبيع والشراء أو للمبادلة أو المقايضة، وساقونا جميعًا إلى شبه زريبة حولها سور بعضه من الخشب وبعضه من الأحجار، وأغلقوا بابه علينا بعد أن حلوا أيدينا من الأمراس، وعند وصولي إلى السوق نسيت متاعبي ومصائبي لاشتغال خاطري بما شاهدته هناك من مختلف الأجناس وأشكال السلع على غير المألوف عندي، وكنا قد وصلنا إلى ذلك المكان قبيل الغروب فبتنا في الظلام والبرد وأنا لا أكلم أحدًا من رفاقي؛ لأني لا أعرف لغتهم ولا هم يعرفون لغتي، ولما أصبح الصباح وأشرقت الشمس نسينا البرد، ثم رأينا الناس يتبايعون ويتقايضون ونحن نتوقع ساعة بيعنا، وإذا برجلين أحدهما طويل القامة جدًّا، والآخر قصيرها وقد ارتديا الجبب المبطنة بالفرو السميك وتلثما بخمارين من صوف، وبرزت لحيتهما من بين جناحي الخمار واحمرت عيناهما من كثرة الدفء أو من شرب الخمر، دخلا الزريبة وأصحابنا البلغاريون يسيرون أمامهما باحترام وفي أثرهما جماعة من الخدم.
فلما دخلا ظل الرجل الطويل واقفًا مع أصحابنا، وتقدم القصير إلينا وجعل يتفحصنا واحدًا واحدًا، وينتقي من يقع عليه اختياره منا، حتى إذا وصل إليَّ تفرس في وجهي وتكلم بلغة لا أفهمها أظنها قوطية أو عبرانية؛ لأني علمت بعد ذلك أن الرجل من تجار اليهود، فمد يده فأمسك بيدي وجذبني نحوه وأمرني أن أفتح فمي، ففحص أسناني وفمي وجس كتفيَّ وهزهما ونظر في عيني وأذني ويدي وقدمي، ثم أشار إليَّ فانضممت إلى المختارين، وبعد الفراغ من الانتقاء تساوموا، فلما تمت صفقة البيع ساقنا أصاحبنا الجدد إلى زريبتهم بعد أن دفعوا الثمن وأظنه بخسًا جدًّا، ثم أعطونا خبزًا يابسًا وألبسونا أكسية ثقيلة متشابهة من الخيش والجلد، وقصوا شعورنا وأصلحوا من شأننا بعض الشيء، فسررت للشبع والدفء.
وحملنا أولئك التجار بعد أيام على الدواب بالتناوب ونحن نحو المائة حتى أتو بنا بلاد الإفرنج، فأنزلونا في خان حبسونا فيه أيامًا، ثم انتقوا جماعة منا لصغر سنهم وجمالهم وأرسلوهم إلى مكان يخصون فيه الصبيان، وبلغني بعد ذلك أنهم أغضوا عني؛ لأني كبرت على تلك العملية.»
ولما وصلت بكلامه إلى هنا، سمعا صوت النفير يدعو الجند إلى الاجتماع فقال: «أظنني أطلت الحديث، فأقول بالاختصار إني انتقلت بالبيع إلى بعض الأعيان من الإفرنج، ثم بالمقايضة إلى الدوق أود، وكنت في أثناء إقامتي في هذه البلاد قد سمعت بقدوم العرب لفتحها، وكانت تحدثني نفسي بالفرار إليهم لأبحث عن والديَّ؛ لأني لم أعد أسمع عنهما شيئًا منذ خطفت بالقسطنطينية، وكنت قد أزمعت إذا كان معسكرنا بقرب معسكر العرب أن أفر إليهم فلم أتمكن من ذلك لأسباب يطول شرحها فها قد قصصت عليك خبري.»
قالت: «لقد سرني صدق فراستي فيك، فأنت الآن عربي وأنا متفانية في خدمة العرب، ولا يسمح لنا الوقت الآن بالتفصيل فلنترك ذلك لفرصة أخرى، وعندي أمور تتعلق بوالديك وجديك سأقصها عليك، أما الآن فامض في عملك، واجتهد — إذا حملتموني معكم في هذا السفر — أن أكون على اتصال بك لنتفاهم بشأن النجاة.»
قال: «سمعًا وطاعة.» وتحول من الغرفة وأغلق الباب وراءه، فإذا هو يكاد يعثر برجل عليه لباس مخالف لزي الجند، كان جالسًا القرفصاء في الدهليز بقرب الباب، ودفن رأسه في حجره فلما رآه رودريك أجفل وخشي أن يكون قد سمع ما دار بينه وبين سالمة، فرفسه بقدمه كأنه يوقظه من النوم فلم يتحرك، فرفسه ثانية وهزه، فتظاهر بالكسل الشديد ورفع رأسه وتثاءب وتمطى وجعل يفرك عينيه ويلتفت حوله كأنه أفاق من سبات عميق فارتاح بال رودريك، إذ توهم أنه كان نائمًا هناك نتيجة كسل أو تعب، فانتهره وأمره أن ينصرف فتظاهر بالخوف ووقف مسرعًا وخرج يهرول.