موكب الدوق
أما سالمة فإنها فرحت برودريك واستبشرت بالنجاة على يده لما ظهر لها من ثقة الدوق أود به، فإذا كان هو حارسها في ذلك المعسكر هانت النجاة عليهما، فتذهب إلى معسكر العرب وتخبر عبد الرحمن بما علمته من استنجاد أود لشارل (قارله) لئلا ينخدع بقلة جند الإفرنج، فيأتيه شارل على غرة فيهزمه، وإذا هزم العرب هناك في وقعة واحدة أخفقت مساعيهم كلها ثم تذكرت حسانًا وكيف تركته في الدير وتمنت أن يكون في خير وعافية، وأن يبقى على قيد الحياة حتى يرى رودريك ويعرف من هو لأمر يهمه، وكانت الشمس قد مالت عن الهاجرة، فوقفت سالمة إلى النافذة تتشاغل بما يبدو من اهتمام الجند بالتقويض والتحميل ريثما يأتيها النبأ في شأنها لترى إلى أين تسير.
قضت ساعة وهي في تلك الحال حتى رأت موكب الدوق أود وحوله الفرسان على أفراس سروجها مفضضة وعليهم الملابس البراقة بالألوان الباهرة: كالأزرق، والأرجواني، والدوق أود في الوسط على فرس من جياد الخيل، وعلى رأسه قبعة مرصعة تتلألأ حجارتها في أشعة الشمس كأنها مصابيح، وعلى كتفيه طيلسان أو رداء سنجابي اللون كالطيلسان مزركش بالقصب إلى أردانه، وفي عنقه قلادة من الذهب يتدلى منها على صدره صليب من الذهب مرصع بالحجارة الكريمة من الماس والياقوت، ونظرت سالمة إلى سرج الجواد ولجامه فإذا هما أيضًا مرصعان والجواد تحته يتلاعب كأنه يرقص تيها، وهو أكثر زهوا من فارسه الدوق، وكان الدوق قد أصلح من شأنه، ولكن الاضطراب ظل باديًا من خلال تلك العظمة، وربما كان السبب في ذلك ندمه على استنجاده بعدوه شارل، على العرب ولعلك لو اطلعت على أعماق نفسه لرأيته يفضل ألا يجيب شارل دعوته أو أن يحدث ما يثنيه عن عزمه فيبقى هو وحده أمام العرب، فإما أن يغلبهم فيبقى سيد أكيتانيا وحده، أو إذا خشي أن يهزموه صالحهم فيملكوه أرضه تحت حمايتهم، وأما شارل فإذا تم النصر على يده فلا يقنعه غير السيادة على الإفرنج كافة ويصبح هو نسيًا منسيًّا، هذا إذا لم يقتله بعض المتزلفين لشارل، ونظن أنه لو تأكد أن الإفرنج سيعاملونه مثلما يعامله العرب لفضل العرب على الإفرنج، لما في فطرة البشر من التحاسد بين الأقرباء أكثر مما بين الغرباء، فالإنسان إذا خير بين أن يذل نفسه لبعض ذوي قرابته أو لأحد الغرباء لفضل الخضوع للغريب، ولهذا السبب ترى الشعوب التي يحكمها الفاتحون من الغرباء أسهل انقيادًا وأقرب خضوعا لقوانين الدولة ممن يحكمهم أناس من أبناء جلدتهم، وذلك لذهاب الهيبة بين أبناء الأب الواحد؛ لأنهم يتعارفون وهم صغار ومن يعرفك صغيرًا لا يحترمك كبيرًا، وبهذه القاعدة نستدل على كثير من غوامض التاريخ المختلف في حقيقتها كأصل الفراعنة الأولين مثلًا، فالمؤرخون مختلفون في: هل هم مصريون أو دخلاء؟ ونظرًا لما نعلمه من خضوع أهل البلاد الأصليين لهم نرجح أنهم غرباء فاتحون للأسباب التي قدمناها، ناهيك بالتحاسد بين الرئيس والمرءوس في أبناء الوطن الواحد، ويشتد الحسد بين اثنين على نعمة كلما تقاربت قدرتهما على نيلها، أو تشابهت أسبابهما إليها، ولذلك كان التحاسد على أشده بين أصحاب المهنة الواحدة.
فلا غرو بعد ذلك إذا تخيلنا في أود الندم على استنجاد شارل، على أنه حينما اقترب بموكبه من نافذة سالمة التفت نحوها، فوقع نظره عليها فرنا إليها قليلًا ولم يبدِ إشارة، ثم توارى الموكب عن سالمة، ورأت الجنود تسير على الأقدام في أثره جماعات وبينهم الأمراء والقواد يمتطون الأفراس وعليهم الدروع والخوذات وبين أيديهم حملة الأعلام، وهي كثيرة الأشكال والألوان، على بعضها رسم الصليب وعلى البعض الآخر صورة العذراء مريم تحمل طفلها، أو صور الملائكة أو طيور أو غير ذلك من الشارات المسيحية أو الرومانية، وكانت جوقة الموسيقى قد مشت بين يدي الدوق صامتة، فلما تحرك الجند سمعت سالمة قرع الطبول والصنوج والأبواق ونحوها، فتحركت عواطفها وتصورت قرب نشوب الحرب بين العرب والإفرنج بعد وصول النجدة لهؤلاء فكيف تكون العاقبة لو قدرت الغلبة للإفرنج وعاد العرب مهزومين؟ وحينما تصورت ذلك اقشعر بدنها وصعد الدم إلى وجنتيها.
فلما سار الجند، وكان يتوارى عن بصرها ولم يبقَ في ذلك المعسكر إلا شراذم قليلة من الخدم والأعوان، ورأت نفسها لا تزال وحيدة ولم يأت رودريك إليها بطعام ولا كلام، انشغل بالها وأوجست من تأخره شرًّا، فتحولت عن النافذة نحو الباب لعلها ترى أحدًا قادمًا فإذا هي تسمع وقع أقدام بلا خفق نعال ومشية غير مشية رودريك، فقالت في نفسها: «من عساه أن يكون القادم؟» وما لبث أن فتح الباب ودخل منه رجل بملابس أشبه بملابس العرب، وحالما وقع بصرها عليه رأت فيه شبيهًا بالرسول الذي جاء بالكتاب إلى أود وهي عنده فاستعاذت بالله وخافت، ولكنها تجلدت وثبتت جأشها وابتدرت الرجل قائلة: «ما الذي تريده؟»