الأحول
فنظر إليها وعيناه تتباعدان من شدة الحول وتتراقصان وقال: «لا أريد شيئًا، ولكن حضرة الدوق أمرني أن أكون في خدمتك.» قال ذلك وهو يصلح رداءه على كتفيه وقد بان السيف من تحته.
فلما رأت سالمة حَوَلَهُ عرفته، فانقبضت نفسها وخشيت سوء العاقبة لعلمها أنه من أكبر جواسيس ميمونة، واعتقدت أن كل ما نالها من الشر إنما كان على يده، ولكنها لم تكن تجسر على التصريح بذلك، فلم ترَ خيرًا من التجاهل والتجلد، فقالت: «بورك فيك لعلك من أهل هذا المعسكر؟»
فابتسم كأنه يهزأ من جهلها وقال: «لا ولكني من معسكر آخر.» وضحك ثم قال: «هل تحتاجين إلى خدمة أقدمها لك؟»
فظلت سالمة على تجاهلها ولم تكترث بما بدا منه فقالت: «لا غنى لي عن خدمتك، ولكن أين هو الشاب الذي كان يخدمني قبلك؟»
قال وهو يقلب شفته السفلى استخفافًا: «لا أدري ولعله سار في مهمة إلى طليطلة أو بلغاريا أو ربما اشتد حنينه إلى أجداده فطار إليهم.»
فلما سمعت تعريضه بما دار بينها وبين رودريك سرًّا خفق قلبها وكادت تظهر البغتة في وجهها، فبالغت في التجاهل وقالت: «إني أشكرك لا أحتاج إلى شيء الآن.» وأرادت أن ينصرف فتخلو بنفسها وتفكر في أمرها.
فقال لها: «ألا تحتاجين إلى شيء أبدًا مطلقًا؟ ألا تتوق نفسك إلى أحد في بوردو أو نهر لوار؟»
ففهمت أنه يسخر منها وأنه مطلع على أسرارها ولو أجابته لسمعت من هزئه ما يؤلمها، فتحولت عنه وهي تتظاهر بالسذاجة وقالت: «لا لا أحتاج إلى شيء.»
فقال: «إذا كنت لا تحتاجين إلى شيء، فأنا أحتاج إلى أشياء.»
فالتفتت إليه لتستطلع غرضه، فإذا هو يضحك ويستخف بها، ثم قال: «إني أحتاج إلى حضرتك.»
فقطبت جبينها وبدا الغضب في وجهها وغلبت عليها الأنفة وعزة النفس وقالت: «وما هي حاجتك يا غلام؟»
قال وقد تهيب منظرها: «لا تغضبي، يا مولاتي، إني أطالب بما أمرني به حضرة الدوق.»
قالت: «وما هو؟»
قال: «أن تتأهبي للمسير في أثر هذه الحملة فننزل حيث ينزلون.»
ففهمت من صيغة الجمع في كلامه أنه سائر معها، فقالت: «وهل نسير الآن؟»
قال: «نعم هذه الساعة، وقد أعددنا لك فرسًا تركبينه.»
قالت: «إني مستعدة إذ ليس عندي أثاث أحمله معي.»
قال: «فتفضلي إذن.» قال ذلك وأشار بيده نحو الباب.
قالت: «اخرج وأنا خارجة في أثرك.» فخرج.
فالتفت بردائها فوق الخمار، وتفقدت المحفظة وسائر ما معها، وخرجت إلى الدهليز ومنه إلى الباحة حتى أطلت على صحن الدار، فرأت هناك فرسًا مسرجًا وحوله فرسان مدججون بالسلاح وفي أيديهم الحراب وعليهم الدروع كأنهم يحرسون عشرين سجينًا متمردين، فلم تعبأ سالمة بهذا المنظر، وتقدمت إلى فرسها فركبته وساقته، فمشى الفرسان حولها في شبه حلقة، وركب الأحوال حمارًا كان هناك وسار في أثرهم.
سارت سالمة في ذلك الموكب وهي غارقة في بحار الهواجس تفكر فيما دهمها على غير انتظار بعد أن كادت تنجو من الخطر، وفكرت في رودريك فغلب على ظنها أنهم حبسوه أو قتلوه وأنها صائرة إلى مثل ما صار هو إليه، ولم يكن الموت ليخيفها لولا خوفها من أن يفوت عليها أمورًا تود إنجازها قبل الموت ومن الناس من تتسلط عليه فكرة القيام بالواجب حتى تنسيه حاجات نفسه، فلا يطلب البقاء إلا لواجب يقوم به، فإذا أدى الواجب أصبح الموت والحياة عنده سواء.
قضت برهة في هذه الهواجس حتى تعبت وفرسها سائر بها إلى حيث لا تعلم، ولكنها كانت ترى الحملة تارة أمامها وطورًا إلى جانبها، فعلمت أنها تابعة لها وتبينت من مسيرهم نحو الشمال أنهم يقصدون تورس على نهر لوار، فلما تذكرت ذلك النهر اختلج قلبها في صدرها وتصورت ما عليها من العهود والمواثيق المتعلقة بذلك النهر، وتذكرت أشياء كثيرة زادتها انقباضًا وعظم في نظرها الأمر حتى كادت تبكي، ولو بكت لخفت حدة انقباضها.
وفي الغروب وصلت الحملة إلى سهل حطوا أحمالهم فيه للمبيت مؤقتًا، وفي الصباح نهضوا لمواصلة السير، وسالمة لا يخاطبها أحد في شيء غير ما لا بد منه مما يتعلق بالطعام أو نحوه، وكانت في أثناء الطريق تتأمل فيما يقع عليه بصرها من الدروب أو التلال أو نحوها، وتتفهم ما يدور بين الجند من الحديث لعلها تطلع على أخبار جند العرب وأين هم وكانت تتفحص الطريق الذي يسيرون فيه عسى أن ترى أثرًا يدل على اجتيازهم ذلك المكان فلم ترَ شيئًا يدل على مرورهم، فترجح عندها أنهم لم يصلوا إلى هناك بعد، مع أنها سمعت بقيامهم من بوردو، يطلبون بواتيه فنهر لوار وكانت على يقين من أنهم لن يلقوا في طريقهم مقاومة كبيرة لما مهدته لهم، وأما المعركة الكبرى فستكون على ذلك النهر فمن غلب هناك ملك.