تورس
وباتوا تلك الليلة أيضًا في الطريق، وأصبحوا مسافرين يجدون في السير، وقضوا يومًا رابعًا على هذه الصورة وهم تارة ينحدرون في واد، وآونة يصعدون على جبل، وحينًا يمرون في سهل حتى وصلوا في أصيل اليوم الرابع إلى نهر صغير يقال له نهر شير، تحف به التلال من الضفتين فضلًا عن الغياض والبساتين، فقطعوا النهر من ضفته اليسرى إلى اليمنى، ثم صعدوا أكمات أطلوا منها على سهل واسع ينتهي بمدينة تورس الكبرى ووراءها نهر لوار؛ لأنها واقعة على ضفته اليسرى، وكان الليل قد أسدل ستاره فلم تشاهد سالمة شيئًا لبعد المدينة عنهم.
وبعد مسير بضعة أميال من شير، اختاروا مكانًا عسكروا فيه على نية الإقامة هناك، فعلمت سالمة أنهم قد حطوا عصا التسيار، فلبثت تنتظر ما يفعلونه بها، فإذا هي بالأحول المعهود قد جاء ومعه بعض الخدم، فنصبوا خيمة خاصة على مقربة من فسطاط الدوق أود، علمت ذلك من شكل الفسطاط بما فيه من دلائل البذخ والترف، فلم يهمها الأمر وقد كادت أن تيأس، وقضوا معظم ذلك الليل في نصب الخيام وإعداد مستلزمات الإقامة.
أما سالمة فإنها دخلت خيمتها فرأت الخادم قد أحضر لها الطعام، فتناولته والتمست الراحة فنامت وهي تفكر في رودريك؛ لأنها لم تره في أثناء الطريق ولا سمعت عنه شيئًا، ولم تكن تجرؤ على ذكر اسمه خوفًا من زيادة الشبهة عليه.
وأفاقت في صباح اليوم التالي على صوت البوق بما لم تعهده من قبل فنهضت واستفهمت من الرجل الموكل بحراستها عن السبب قال لها: «إن الدوق يدعو الجند إلى الاجتماع في الساحة الكبرى أمام فسطاطه للصلاة قداسًا كاملًا على اسم القديس مرتين حامي حمى الإفرنج؛ لأنه مدفون في هذه الجهات وقبره بمثابة حج للنصارى في أنحاء أكيتانيا وأوستراسيا.»
وكانت سالمة تعرف أن القديس مرتين المذكور كان رسول النصرانية إلى الغاليين في القرن الرابع للميلاد وكان أسقفًا في تورس، ولما توفي دفنوه في ضاحية من ضواحيها، وبنوا بجانب قبره كنيسة وديرًا وأصبح المكان بلدة تعرف باسمه، وصاروا يحجون إليه وينسبون له المعجزات.
فلما رأت سالمة اجتماع الجند وكهنتهم في تلك الساحة للصلاة وقفت بباب خيمتها لتشاركهم في صلواتهم، فإذا بالدوق قد خرج من فسطاطه في حاشيته وأعوانه وكلهم بالملابس الرسمية وقد تقدمهم القسس بالثياب الكهنوتية وبأيديهم الصلبان، وهم يتمتمون وأمامهم بعض الشمامسة يحملون صليبًا على عصًا طويلة حتى وقفوا في تلك الساحة على شبه منبر، ووجوههم نحو كنيسة القديس مرتين عن بعد والجند وقوف، فأقاموا قداسًا طويلًا، وكانت القلوب خاشعة يراودها الأمل في النصر على الأعداء ببركة تلك الصلاة.
ومن غرائب مطامع البشر وضعف طبيعتهم أنهم يسنون الشرائع بتحريم القتل، ويشددون النكير على القاتلين، ثم يرفعون أكف الضراعة إلى موحي تلك الشرائع أن يساعدهم على قتل أبناء جلدتهم، وهم مع ذلك يتوقعون إجابة سؤلهم لاعتقادهم أنهم إنما يلتمسون نصرة الحق وتأييد الصواب، وكل طائفة تعتقد ذلك وتفعله، ولو أدركوا معنى التدين الحق لطلبوا حقن الدماء وتكاتفوا على حفظ السلام، ولكنهم لا يفعلون ذلك، وكأنهم أدركوا بالسليقة أن الحرب ضرورية للبقاء، وأنهم لو لم يقتلوا بعضهم بعضًا لقتلهم الجوع والوباء؛ لأن الأرض إذا مضى عليها بضعة قرون ولم تحدث فيها الحرب ضاقت بساكنيها، وقد قدروا أن الذين قتلوا بسبب الحروب من أول عهد التاريخ إلى الآن خمسة أضعاف سكان الأرض كلها، عدا ما كان يترتب على بقائهم من التكاثر بالتناسل المتضاعف.
ومهما يكن من الأمر، فالحرب باقية ما بقي حب الذات، وهو باق ما بقي الإنسان لهذا سعى بعض رجال التمدن إلى الحديث في تخفيف ويلات الحرب بما اخترعوه من آلات الدمار التي لم تكن معروفة في عهود التمدن القديم.
وكانت سالمة حينما سمعت أصوات المرتلين وشمت رائحة البخور قد تخشعت واستغرقت في الأفكار وتذكرت تاريخ حياتها وما مر بها من الأهوال ولم يقف فكرها إلا عند عبد الرحمن إذ تذكرت ابنتها مريم وكيف تركتها هناك، وما عسى أن يكون من أمرها بعد انتقال العرب في طريقهم إلى تورس، وتذكرت ميمونة فاختلج قلبها لذكراها خوفًا على مريم من حبائلها، لما تحققته من أمرها، وأصبحت شديدة الرغبة في أن تطلع العرب على ما عرفته عنها، وإذا استطاعت ذلك فإنها تنقذهم من مكائدها، ولما بلغت تصوراتها إلى هذا الحد تذكرت حسانًا؛ لأنه لو كان معها لأنفذته في هذه المهمة، واستغرقت في هذه الهواجس مدة والناس يضجون بالصلاة، والقسس يرفعون أصواتهم بالتراتيل، ووجوههم متجهة نحو القديس مرتين.
وكانت سالمة واقفة تسمع القداس وترسل بصرها إلى أطراف ذلك المعسكر وما وراءه من السهول إلى نهر لوار، ومدينة تورس على ضفته وبإزائها محلة دير القديس مرتين على أنها لم تكن ترى من تلك الأماكن إلا رءوس الأبنية الشامخة لبعد المسافة.
وفيما هي تسرح بصرها على تلك الصورة رأت إلى يسار المعسكر شبحين ظهرا من وراء الأفق عن بعد، فأطل أولًا رأساهما، ثم ظهر بدناهما بالتدريج فإذا هما فارسًان فظل بصرها عالقًا بهما وشعرت برغبة في استطلاع حالهما، ثم ما لبثت أن رأت عليهما ملابس الرهبان السوداء وعلى رأسيهما القبعة، فقلت رغبتها في الاستطلاع لكثرة الرهبان في تلك الأصقاع، وكثرة ترددهم على المدن لابتياع حاجات الأديرة، وبعد قليل رأت الراهبين قد اختلطا بالجند ووقفا معهم للصلاة، فحولت وجهها عنهما وعادت إلى هواجسها فتذكرت الشاب رودريك وودت لو أنها تجتمع به هناك، ولو لم تكن ثمة فائدة من ذلك الاجتماع فإنها قد تستأنس به.