أول الأسرار
فبغت حسان لذلك، وحدق بعينيه، وقال: «من هو ذلك العدو يا مولاتي هل تخبرينني؟ قولي الآن ولا تخافي من وجود حضرة الراهب معنا فإنه صديق مخلص لنا في نصرتنا أو تكلمي بالعربية فإنه لا يعرفها قولي من هو ذلك العدو؟»
قالت: «هو ميمونة أو بالحري تلك المرأة الداهية التي سمت نفسها ميمونة وما هي إلا ملعونة.»
قال: «ولم تكن هذه المرأة مجهولة لدينا، فقد شاهدناها غير مرة فما الذي عرفته من أمرها هنا؟»
قالت: «لم أكن أجهل أمرها منذ رأيتها في معسكر عبد الرحمن للمرة الأولى، ولكنني أجلت كشف أمرها ريثما أعود من مهمتي هذه، وخشيت إن أنا بحت بشأنها أن يؤدي ذلك إلى أن تصرح بحقيقة أمري، وأنت تعلم أننا لا نريد ذلك الآن وإن كان اطلاع عبد الرحمن على حقيقتي لا يزيده إلا إكرامًا لي، ولكنني مقيدة بالعهود والمواثيق ألا أطلع أحدًا على شيء قبل عبور هذا النهر (وأشارت إلى نهر لوار) ولو علمت ما قد يترتب على سكوتي عنها لما صبرت على كتمان أمرها، وأما الآن فلا بد من كشف سرها لعبد الرحمن على عجل.»
قال: «وما هو شأنها يا مولاتي، هل يجوز لي الاطلاع على هذا السر؟» قال ذلك وجثا بين يدي سالمة وحملق بعينيه.
فقالت: «هل أخفي عنك سرًّا وأنت تعلم أنك خزانة أسراري، بل أنت الرجل الوحيد المطلع على حقيقة حالي عدا الكونت أود صاحب هذا المعسكر، فإنه عرفني وهددني ثانية ولكنه شغل عني أو أجل النظر في أمري؛ لأنه أمن جانبي لاعتقاده أني سجينته حتى يشاء لست أخفي عنك سرًّا يا حسان، اعلم أن المرأة التي يسمونها ميمونة وتعد نفسها من محظيات عبد الرحمن وتتقرب إليه بجمالها ومكرها، إنما هي لمباجة بنت الدوق أود صاحب هذا الجند.»
فلما سمع حسان قولها بغت وانتفض واقفًا، ثم قال وقد بح صوته من محاولة تخفيضه مع تهيج عواطفه وبغتته: «بنت الدوق أود هذا؟ قائد هذا المعسكر؟»
قالت: «نعم هي بعينها وأظنك تعرفها أنت وقد رأيتها غير مرة وهي مع زوجها المقتول ألا تعرف المنيذر الإفريقي الذي كان حاكمًا في بلاد البيرنية بين إسبانيا وأكيتانيا؟»
قال: «نعم أعرفه وبلغني أن الأمير عبد الرحمن الغافقي لما قام بجنده لفتح هذه البلاد، بلغه أن المنيذر هذا متواطئ مع الإفرنج على حساب العرب، فسار إليه بغتة وقتله واستولى على أمواله ونسائه وبعث بها إلى الخليفة في دمشق.»
قالت: «هل تعلم السبب الذي حفزه على مواطأة الإفرنج ضد العرب؟»
قال: «كلا.»
قالت: «إن الدوق أود علم بما بين العرب والبربر من التحاسد لأسباب لا تخفى عليك، وبلغه أن المنيذر البربري المذكور صاحب نفوذ كبير في قبائل البربر وأنه إذا اكتسب ثقته واسترضاه يكون عونًا له على العرب، فاتصل به وأفضت المحادثات بينهما أن يتزوج المنيذر من لمباجة ابنة الدوق أود، وقد رضي أود أن يزف ابنته إلى هذا البربري على أمل أن تكون وهي عنده قابضة على زمام إرادته تستخدمه فيما تريده لمصلحة والدها، وهي مشهورة بالجمال والدهاء، وبعد أن أقامت مع زوجها المذكور مدة وهي تدبر الحيل لتطوح بدولة العرب نهض الأمير عبد الرحمن وعرف الخطر الذي يحدق بالعرب من ذلك الأمير فبغته وقتله.»
قال حسان: «نعم سمعت ذلك من قبل وسمعت أيضًا أن امرأة أخذت في جملة الغنائم والأموال إلى دمشق لتكون للخليفة.»
قالت: «وقد أشاعوا ذلك زورًا وبهتانًا، فالظاهر أن الزوجة ألبست إحدى نسائها ثيابها وأوهمت أن تلك لمباجة، وإنما هي من بعض خدمها وسراريها لتبقى في معسكر عبد الرحمن عينا لأبيها على العرب وحركاتهم، وقد تحققت من أنها هي التي كتبت إلى أبيها أن يستنجد بشارل دوق أوستراسيا، ولم يكن ليقدم على ذلك من تلقاء نفسه حياء من رجاله ورعاياه، فأغرته هي بما لها من النفوذ عليه فاستنجد به ومما يخيفني من أمرها أن الأمير عبد الرحمن يثق بها، ويفضي إليها بأسراره، ويستشيرها فهل من خطر على جند العرب أعظم من هذا؟»
فقال حسان: «كلا يا مولاتي فينبغي أن أذهب بهذا الخبر إلى الأمير سريعًا، فهل تكتبين كتابًا أحمله إليه حالًا؟»
قالت: «ولا بد قبل كل شيء أن نخرج من هذا السجن ومتى خرجنا يهون علينا كل أمر عسير.»