الجوزة الكبيرة
وكان الراهب أثناء ذلك الحديث واقفًا يتشاغل بالمشي في أرض الخيمة ويتطلع من بعض شقوقها وثقوبها إلى الخارج وكأنه رأى أمرًا بغتة فأسرع إلى سالمة وهي تقول ذلك وقال لها: «أظننا أطلنا الكلام حتى قلق الحراس، إنني أراهم في هرج، يتشاورون ويتهامسون، وأخشى أن يكون في ذلك خطر علينا.»
فقال حسان: «عليك بهذا الرداء يا مولاتي فالبسيه واخرجي مع حضرة الأب، وغادرا المعسكر، وسأتبعكما سريعًا والملتقى على ضفة نهر شير عند الجوزة الكبيرة التي جلسنا تحتها بالأمس يا حضرة الأب.» قال ذلك وألبس سالمة عباءة الرهبان وجعل على رأسها القبعة وأعطاها العصا وأشار إليها بالخروج على عجل.
فتنحنح الراهب وقرع بعصاه عمود الخيمة وسعل وخرج من الخيمة وسالمة في أثره فلما أطل على الحراس تظاهر بانشغاله برسم الصليب والصلاة ثم رفع يده كأنه يباركهم، فأحنوا رءوسهم جميعًا ونزعوا قبعاتهم إجلالًا واحترامًا ولم يجرؤ أحد على الاقتراب منهما لما لاحظوه من اشتغالهما بالصلاة تمتمة، وكانت سالمة تمشي وركبتاها ترتعدان ليس خوفًا على حياتها ولكنها استنكفت الفرار خلسة والتنكر بملابس الرهبان، ولما بعدا عن المعسكر واطمأنا على نفسيهما اشتغل بال سالمة على حسان، وخشيت أن يقع في الأسر.
سارا في المعسكر، وهما في زي الرهبان، والحرس لا ينتبهون لهما، وأكثر الجند نيام، إلى أن خرجا من بين الخيام، وكانت سالمة تمشي وتتلفت يمينًا وشمالًا، ثم تلتفت ورائها لعلها ترى حسانًا قادمًا، وقد ندمت على تركه في تلك الخيمة؛ لأنه أقدر منها على تحقيق ما تطلبه في تلك الساعة وكان الظلام مخيمًا، لا يريان مما يحيط بهما غير الأشجار العالية إذا اعترضت بينهما وبين الأفق، وكانت سالمة تتمشى في أثر الراهب أينما مشى؛ لأنها لا تعرف مكان تلك الشجرة.
وبعد مسير ساعة، وهما صامتان، التفت الراهب إلى سالمة وقال: «قد أصبحنا على مقربة من الجوزة، يا مولاتي، وهذه رءوس أغصانها.» وأشار بيده إلى الأمام، فالتفتت فلم ترَ شجرًا ولكنها رأت أغصانًا متفرقة تتراءى في الأفق فعلمت أن الشجرة في منخفض وأنها ترى رءوس أغصانها، ثم رأت شبحًا يظهر بجوار تلك الأغصان رويدًا رويدًا كأنه قادم من وراء أكمة نحوهما، فتفرست في ذلك الشبح حتى بدا كله ودنا منهما، فإذا هو بملابس جند الإفرنج ولما اقترب منهما اختلج قلبها في صدرها لعلمها أنه عدلان الأحول، فاستعاذت بالله منه وخافت على حسان من دهائه أما هو فظل ماشيًا لا سلام ولا كلام، فسرت سالمة بذلك، وبعد قليل وصلا إلى قمة التل فشاهدت سالمة وراءه شجرة هائلة تظلل سهلًا واسعًا، فانحدرا نحوها وجلسا تحتها وأمامهما عين ماء تصب في منحدر، تحته وادٍ يجري فيه نهر شير، وكانت سالمة قد تعبت من المشي والقلق فجلست على حجر ناعم أملس، من كثرة ما لامسه من الأيدي بمرور الزمن، وكانت تلك الشجرة مهبطًا للمسافرين هناك ولما جلسا قالت سالمة للراهب: «إني خائفة على حسان ولا أظنه يستطيع الخروج من ذلك المعسكر، وإذا كان لم يخرج الآن فإنني لم أعد أرجو خروجه.»
قال: «وكيف ذلك؟ إذا لم يخرج الآن، يخرج بعد ساعة أو ساعتين ويكون الحرس نيامًا.»
قالت: «لا أخاف عليه من الحرس ولكنني أخاف عليه من هذا الرجل الذي رأيته مارًّا بنا وهو الذي وشى بي حتى قبضوا عليَّ، ولو لم يكن غائبًا الليلة عن المعسكر ما انطلت حيلتكم على الحرس …»
قضا مدة في مثل ذلك وسالمة تعد اللحظات وتحسب الساعة يومًا من شدة القلق، ثم سمعا وقع أقدام مسرعة فالتفتا فرأيا شبحًا يعدو نحوهما فلم تشك سالمة أنه حسان، فلما اقترب منها ارتعدت فرائصها من منظره؛ لأنه كان عاري الصدر والذراعين مكشوف الرأس، وقد نبش شعره وأرسله على وجهه حتى أصبح منظره كمنظر الجان أو الشياطين على ما كانوا يصفونهم في ذلك العصر، ولم تكد سالمة تتبين ملامح وجهه حتى سمعته يقول «لا تخافي، يا مولاتي، أنا حسان.» فاطمأنت، وصاحت فيه قائلة: «ويلك ما هذا العمل؟»
قال: «لولا هذه السحنة ما نجوت من الأسر فعندما تحققت أنكم بعدتم عن المعسكر، تعريت كما تريان، ونبشت شعري، وخرجت من الجانب الخلفي للخيمة أعدو على يدي وقدمي، وأصيح صياح الشياطين، فأجفل الحرس من حولي وتفرقوا لاعتقادهم أني شيطان، ولم يرجع إليهم رشدهم ويفطنوا إلى الحيلة حتى صرت خارج المعسكر، ولكنني التقيت هناك برجل أظنه عدلان البربري الأحول وقد رآني ولم يعرفني، هل شاهدكما هنا؟»
قالت: «رآنا ولم يعرفنا.»
فقال: «لا بد لنا إذن من تغيير هذا المكان أعطوني العباءة أولًا.»
فأعطته سالمة العباءة فلبسها وهو يقول: «هلم بنا نذهب من هنا، فإن هذا البربري الشرير لا يلبث أن يصل إلى المعسكر ويعرف بأن الراهبين تمكنا من مساعدتك على الفرار حتى يأتي إلى هذا المكان بالجند، ولا طاقة لنا بالحرب.»
فقال الراهب: «هذا هو الصواب فلنمضِ إذن إلى دير القديس مرتين، فإننا نستطيع أن نبلغه قبل الصباح فنصير هناك في مأمن، وإذا أردت إرسال حسان بعد ذلك افعلي، وربما أرسلنا معه من يهديه إلى الطريق.»