دير القديس مرتين
فاستحسنت الرأي ونهضت، فمشوا في طريقهم إلى الدير والراهب دليلهم فوصلوا إليه عند الفجر وقد أخذ التعب منهم مأخذًا عظيمًا فأطلوا على حلة أشبه ببلد صغير، وفي وسط البلد بناء شامخ محاط بسور عالٍ مثل سائر الأديرة هناك، ولكنه أفخمها جميعًا، ومحيط السور هائل يحسبه الناظر سور مدينة لسعته وارتفاعه، وكان دير القديس مرتين مشهورًا في أكيتانيا وأوستراسيا وسائر أوروبا بالغنى والثروة لكثرة ما حواه من الآنية الذهبية والفضية، غير الأموال المدخرة في خزانته من الهبات والنذور ونحوها، وكانت سالمة تسمع بذلك الدير ولم تدخله بعد، فلما أطلت عليه تركت للراهب أن يتصرف في كيفية الدخول، فإذا به تقدم إلى الباب، وهو كبير على خلاف أبواب سائر الأديرة، فأمسك بحبل مدلى هناك وشده فدق الجرس دقة خاصة، وبعد هنيهة أطل أحد الرهبان من برج فوق الباب، فكلمه الراهب رفيق سالمة باللاتينية فأسرع ذاك إلى الباب وفتحه ورحب بالقادمين، فدخل الراهب وسالمة من باب آخر وراءه، فأطلا على فناء واسع أشبه شيء بالحديقة، وفي وسط الفناء بناء كبير هو الدير، وبجانبه بناء آخر عرفا من قبته والصليب في أعلاه أنه كنيسة القديس مرتين.
وكان حسان سائرًا في أثرهما، وهو لا يزال بمظهره الغريب، فأمره رفيقه الراهب أن يمكث عند الباب، وأشار إلى البواب أن يبقيه عنده ريثما يطلبانه فمكث هناك وظلت سالمة والراهب سائرين والراهبان يتخاطبان باللاتينية، فلم تفهم سالمة من حديثهما إلا قليلًا ثم تكلم راهبها بالإفرنجية قائلًا: «إن حضرة السيدة قادمة بكتاب إلى حضرة المحترم رئيس هذا الدير فهل هو هنا؟»
قال: «أظنه لا يزال في عبر النهر عند دوق أوستراسيا إلا إذا كان قد دخل الدير من بابه الآخر المشرف على هذا النهر.»
قال: «ومتى قطع النهر؟»
قال: «قطعة بالأمس على حين غفلة.»
قال: «وما الذي دعاه إلى ذلك؟»
وكان الراهب يتكلم وهو يمشي في الحديقة بين أشجارها ويتفرس في طرقها كأنه يفتش عن أحد، فلما أفضى بهم الحديث إلى هنا كانوا قد وصلوا إلى مقعد من الحجر بجانب الكنيسة، فأشار الراهب إلى سالمة بالجلوس وجلس هو، ونور الصبح آخذ في الإشراق، وقد تطايرت العصافير وانطلق النسيم فاختلط حفيف الأشجار بتغريد الأطيار فكان لذلك تأثير شديد على سالمة بعد أن قاست ما قاسته من التعب والقلق طول الليل الماضي، وأحست بالنعاس ولكن حواسها تنبهت لسماع حديث الراهبين لتعرف سبب خروج الرئيس من ديره على غرة، فسمعت الراهب يقول: «إن الذي دعا إلى ذلك الخروج يا أخي أمر جديد كفانا الله شره.»
فقال الراهب: «وما هو ذلك الأمر لا سمح الله؟»
قال: «ألم تسمع بمجيء الدوق شارل صاحب أوستراسيا بجيشه الجرار؟»
قال: «سمعت أنه قادم فهل وصل؟»
قال: «نعم يا أخي وصل منذ أيام وهو الآن على الضفة اليمنى، وحالما وصل بعث إلى حضرة المحترم رئيس ديرنا أن يوافيه إلى هناك على عجل فلم يسعه غير الطاعة.»
قال: «وما الذي يبتغيه منه وليس عنده جند ينجده به؟»
قال: «يظهر أنك تجهل حال هذا الدوق مع رجال الله والكنائس والأديرة.»
قال: «أعرف عنه قليلًا.»
قال: «ألا تعرف طمعه في أموال الكنائس وأرزاقها وهل فاتك ما ارتكبه من الظلم مع أكليروس أوستراسيا؟»
قال: «سمعت بعض الشيء وأخشى أن يفعل مثل ذلك في كنائسنا هنا.»
قال: «وهذا الذي نخشاه نحن.»
وبينما هما في ذلك، إذ سمعا قرع الجرس فبغت راهب الدير ووقف الباقون وهم يحسبون الجرس يقرع للصلاة، ولكنهم رأوا الكنيسة لا تزال مغلقة وقد تقاطر الرهبان من كل ناحية نحو طرقة من طرقات الحديقة تؤدي إلى سور الدير من جهة النهر، فظلت سالمة وراهبها واقفين بجوار المقعد ينتظران ما يكون، ولم يمضِ قليل حتى رأيا جماعة من الرهبان عائدين وفي مقدمتهم راهب بملابس خاصة، يمتاز عن الباقين وعلى رأسه قلنسوة خاصة فعرفت سالمة أنه الرئيس وقد عاد من مهمته التي ذهب لأجلها إلى شارل فاستغربت رجوعه في ساعة مبكرة، وتفرست فيه عن بعد فرأته ماشيًا وحوله الرهبان والجميع سكوت تهيبًا مما في وجهه من مظاهر الغضب.
وكان ذلك الرئيس كهلًا كثيف اللحية قد وخطه الشيب في أواسط لحيته من مقدم الذقن ولا يزال الباقي حالكًا، وكذلك شاربه فإنه كان غليظًا كثيفًا وكانت عيناه كبيرتين براقتين، فوقهما حاجبان عريضان ومنظره في الجملة وقور مع جلال، وقد زاده الغضب هيبة ووقارًا حتى ألجم الرهبان كافة عن الكلام، فتوسمت سالمة من ذلك الغضب خيرًا ولما دنا من الدير أسرع رفيقها الراهب إلى يده، فقبلها وهو جاث وقبعته بيده، ففعلت سالمة مثله ثم تنحى الجميع ودخل الرئيس من باب الدير وتبعه جماعة الرهبان وعلى وجوههم علامات الدهشة، ولا يجسر أحد على الكلام إلا همسًا.
فظلت سالمة وراهبها يترقبان فرصة تسمح بدخولهما على الرئيس، وكانت سالمة تفضل الدخول عليه وحدها ومعها الكتاب، وبعد هنيهة جاء الراهب الذي كان قد استقبلهم من باب السور وقال: «هذا هو الرئيس قد عاد فما الذي تريدانه؟»
قالت سالمة: «أريد أن أحظى بتقبيل يديه ومعي كتاب أريد تقديمه إليه.»
قال: «وأين الكتاب؟»
فمدت يدها وأخرجته من جيبها، ودفعته إليه مختومًا فتناوله ودخل ثم عاد ودعا سالمة للدخول وحدها، فسرت لذلك ومشت وهي تعد في ذهنها ما ستلقيه على الرئيس لعلمها أن رئيس دير القديس مرتين يمتاز عن سائر رؤساء الأديرة بعلو منزلته وغنى ديره فدخلت في دهليز انتهت منه إلى باحة رأت فيها الرهبان متزاحمين يذهبون ويجيئون كأنهم في شغل عظيم وقد تسربوا أزواجًا وأثلاثًا، فلما رأوها وسعوا لها الطريق، فمشت والراهب يتقدمها حتى وصلت إلى غرفة الرئيس وعلى بابها ستار شقه الراهب بيساره وأشار إلى سالمة بيمينه أن تدخل، فدخلت إلى قاعة مفروشة بالبسط وعلى جدرانها صور بديعة الصنع تمثل أهم حوادث النصرانية، وفي صدر القاعة صورة القديس مرتين بالحجم الطبيعي الكامل ورأت الرئيس جالسًا على مقعد في صدر القاعة تحت تلك الصورة، فلما دنت منه جثت وقبلت يده فأنهضها وطلب مقعدًا أجلسها عليه، والكتاب لا يزال بيده وقد تبسم ترحابًا بالقادمة والغضب لا يزال باديًا في عينيه.