أمل جديد
فجلست سالمة متأدبة والخمار يجلل رأسها، وثوبها الأسود يزيدها كمالًا ورزانة، وظلت صامتة احترامًا للرئيس، أما هو فأعاد نظره إلى الكتاب وتفرس فيه كأنه يقرؤه ثانية، ثم قال: «ممن هذا الكتاب؟»
قالت: «إن خاتم صاحبه فيه.»
قال: «لا أرى خاتمًا ولكنني عرفته من خطه هل أنت سالمة؟»
قالت: «نعم يا مولاي، إني أمتك سالمة.»
قال: «العفو يا أختي كلنا عبيد ربنا ومخلصنا ما الذي تريدينه مني الآن؟»
قالت: «لا أريد إلا ما تريده قداستكم وليس لي رأي بعد رأيكم.»
فابتسم غضبًا وقال: «لا حاجة بنا إلى المجاملة والتردد لقد جئتني لأمر يقول أخي رئيس دير … أنه يهمني ويهمه وأن عليه يتوقف مستقبل الكنيسة في أكيتانيا فتفضلي بما تأمرين.»
قالت: «إني خاطئة لا أستحق هذه العناية، ولكني كنت خاطبت كاتب هذا الكتاب في شأن دافعني فيه وأنكره عليَّ، ولكنه ما أن سمع بقدوم الدوق شارل إلى هذه البلاد حتى استصوب رأيي فهل أعجبك حضرة الدوق بمجيئه؟ اصفح عن جرأتي في هذا السؤال؛ لأن عليه يتوقف حديثي.»
قال: «صدقت يا ابنتي هذا السؤال لا يجسر أحد من رهباني أن يسألني إياه ولكنك جئت في وقت أجيز لك فيه هذا السؤال، وفي كلام أخي الرئيس صاحب هذا الكتاب ما يحملني على الثقة بك فأقول إني وجدت الدوق شارل خطرًا على الكنيسة في أكيتانيا.»
قالت: «وهذا الذي رآه هو، وأراد أن أكون الواسطة في عرض طريقة أرجو أن تعود بالنفع على الكنيسة وأهلها.»
قال: «وما هي طريقتك؟»
قالت: «هل تعد الدوق شارل مسيحيًّا حقًّا؟»
قال: «هو يزعم أنه مسيحي، ولكن أنَّى له ذلك وهو يحلل ما حرمته الكنيسة كنا نسمع عنه أمورًا لم نكن نصدقها لغرابتها حتى سمعناها من شفتيه.» قال ذلك وقد تجدد غضبه ثم قال: «كنا نسمع أنه أخذ أموال الأديرة وأساء إلى الأكليروس، وكنا نستغرب ذلك منه حتى دعاني بالأمس إليه وبدلًا من أن أسمع منه تملقًا وتزلفًا لشدة حاجته إلينا في كل شيء سمعت منه تهديدًا ووعيدًا.»
فانشرح صدر سالمة لهذه الشكوى، واستبشرت بتحقيق أمنيتها، ولكنها أظهرت الدهشة وقالت: «تهديد ووعيد؟ ولماذا؟ ألعلكم عصاة؟»
قال: «كلا يا ابنتي ولكنه كلفني أمرًا لم أوافقه عليه كما أراد، دعاني وطلب إليَّ أن أدفع ما في صندوق هذا الدير من الأموال عاجلًا؛ لأنه يحتاج إليها في الحرب، ثم عرَّض بفضله علينا في هذه الساعة؛ لأنه سيدفع عنا العرب سامح الله الدوق أود ما أضعف قلبه، إنه سيجر علينا البلاء مضاعفًا باستنجاده بهذا الرجل المستبد.»
فأظهرت سالمة الاهتمام وقالت: «في الحقيقة إن الخطأ الأكبر من الدوق أود، فقد أضاع استقلاله وجر البلاء على الكنيسة وما الذي يظنه مولاي الرئيس في هؤلاء العرب؟»
قال: «هم أعداؤنا وأعداء ديننا!»
فابتسمت بلطف وقالت: «اسمح لي يا حضرة الرئيس المحترم أن أعترض على هذه التهمة هل رأيت العرب أو عاشرتهم؟»
قال: «كلا ولكنني سمعت عنهم شيئًا كثيرًا سمعت أنهم يعبدون الأصنام وأنهم إذا نزلوا بلدًا نهبوا كنائسه وسبوا نساءه وخربوا منازل أهله.»
قالت: «ألا تصدق امرأة عاشرتهم أعوامًا؟»
قال: «هل عاشرتهم كثيرًا؟ وأين؟ وما هي علاقتك بهم وأنت من أهل هذه البلاد على ما يظهر؟»
قالت: «فليسمح لي مولاي أن أجيب على أسئلته بما في استطاعتي لقد عاشرت هؤلاء العرب أعوامًا فظهر لي أنهم أهل ديانة مثل ديانتنا، يعبدون الله مثلنا وهم أهل رفق وعدل، يوفون بالعهود ويحافظون على المواثيق، وقد فتحوا بلاد الإسبان ومعظم أكيتانيا ولم يظهر منهم إلا العدل والرفق، ترى النصارى في إسبانيا وفي بوردو وبواتيه وغيرها من البلاد التي فتحوها متمتعين بحريتهم الدينية، لا خوف على كنائسهم، ولا على أموالهم، ولا على شيء مما يملكون، ولا يخلو أن يطمع أحدهم في نهب أو سلب فإذا لم يكن محقًّا فإنه ينال جزاءه من أميره.» ثم قصت عليه حكاية كنيسة بوردو وبذلت جهدها في تنميق العبارة وبسطها لعلمها أنها إذا أقنعت رئيس دير القديس مرتين هان عليها إقناع أسقف تورس، وإذا هم لم يساعدوا العرب كفاها ألا يساعدوا الإفرنج.