الرهينة
وكان الرئيس يسمع كلامها ويتفرس في وجهها ويستطلع حقيقتها، فلم تسعفه الفراسة إلا قليلًا وظل مستغربًا غيرة هذه المرأة على العرب وهي غير عربية ولكنه استحسن امتداحها العرب خصوصًا وهو على تلك الحال، فتوهم أن مجيء هذه المرأة أثناء نفوره من شارل وخوفه منه لا يخلو من عناية خاصة روحانية، فمال إلى موافقة سالمة في رأيها ولكنه أعظم أن ينصاع إليها في سهولة، وأراد من ناحية أخرى أن يحافظ على غيرته الدينية لعلمه أن انحيازه إلى العرب — إذا لم يكونوا كما وصفت — يغير مستقبل النصرانية في تلك البلاد ويقلب الأحوال رأسًا على عقب، وكان يرجو رجوع شارل عن مطالبه، فإذا رجع لم يبقَ ثمة داع لعدوله عن نصرته، فظل مدة مطرقًا وهو يعبث بأطراف لحيته بين أنامله، ثم التفت إلى سالمة وقال لها: «إني شاكر لسعيك، وأرجو أن تمهليني ريثما أفكر وأستخير الله وأعمل بإلهامه جلت قدرته.»
قالت: «تبصر يا مولاي في الأمر كما تشاء، ولكنني أذكرك بما أنت مسئول عنه أمام الله من مصالح الرعايا وإنما هدفي أن يعود سعيك بالخير على الكنيسة وأهلها.» قالت ذلك ووقفت فابتدرها الرئيس قائلًا: «أما أنت فتبقين عندنا ريثما نرى ما يكون.»
فأدركت أنه يريد بقاءها عنده رهينة حتى يصدق قولها، فلم تبال لاعتمادها على وعود عبد الرحمن، فقالت: «إني رهينة أمرك فيما تريد.»
فصفق الرئيس فجاء أحد الرهبان فقال: «انزل هذه الضيفة في غرفة خاصة بها وأكرموها.»
فمضت مع الراهب إلى علية أعدوها في طرف الدير من جهة نهر لوار، ولها نافذة مطلة على ذلك النهر، فاتكأت على السرير وقد أخذ التعب منها مأخذًا عظيمًا فاستلقت ونامت واستغرقت في النوم، ولم تفق إلا على قرع جرس يدعو الرهبان للغذاء، فنهضت والتفت بثيابها وأطلت على النهر فبغتت لما شاهدته — من بعد — من السفن الصغيرة المرابطة صفوفًا كالجسور، وقد أخذ الناس في العبور عليها إلى هذه الضفة ومعهم الأعلام أشكالًا وألوانًا.
فعلمت أنهم جنود شارل فوقفت تنظر إلى مجرى النهر، وقد رجعت بها أفكارها إلى مريم والعهود التي تربطها بذلك النهر وما يتوقف على الجيشين هناك من الأمر الهام، وكانت كثيرة الاطلاع على أحوال الإفرنج، وقد علمت أنه لم يبقَ عندهم رجل قوي إلا شارل هذا فإذا دارت عليه الدائرة فالغلبة للمسلمين على كل أوروبا؛ لأنه لن يقف في طريقهم شيء بعد ذلك، وإذا كانت الغلبة للإفرنج، فلا مقام للمسلمين هناك أبد الدهر وأشد من ذلك وطأة عليها أن العرب إذا لم يقطعوا نهر لوار لم يبقَ لها ولا لابنتها عيش فلما تذكرت ذلك مدت يدها إلى جيبها وافتقدت المحفظة وفيها كل سرها وأخرجتها وقبلتها، فدمعت عيناها وأحست من تلك الساعة بشوق شديد إلى مريم بعد ذلك الغياب الطويل وهي لا تدري كيف حالها، على أنها لم تكن تخشى عليها من أحد ليقينها بحكمتها وعناية عبد الرحمن بها.
استغرقت سالمة في تلك الهواجس، وعيناها تنظران إلى معبر الجند وقد استغربت كثرتهم على الضفتين، وكانت تسمع صوت الطبول برغم بعد المسافة؛ لأن الهواء كان يهب من الشمال والشرق والصوت يأتي معه، وقضت سالمة في ذلك ساعة، ولو تركت لنفسها لانقضى النهار ولم تنتبه، ولكنها ما لبثت أن سمعت قرع الباب فتحولت وفتحته، وإذا براهب ومعه خادم يحمل خوانًا عليه الأطعمة فقدماها لها، وخرجا فأحست بالجوع وكانت قد نسيت نفسها، فجلست ولم تزدرد اللقمة الأولى حتى تذكرت حسانًا ورفيقها الراهب فصفقت، فجاءها خادم فطلبت إليه أن يستقدم خادمها عند باب الدير، فذهب ثم عاد بحسان وهو بعباءة الرهبان وشعره لا يزال مشعثًا، فدخل وتأدب، فأمرته أن يقفل الباب وراءه، فلما خلت به دعته للجلوس فأبى، فقالت: «دعنا من المجاملة فإنك من أعز الأعزاء إليَّ، وأي عزيز يضحي بنفسه في مصلحة صديقه أو صاحبه كما فعلت؟ فاسمح لي أن أعاملك معاملة الصديق اجلس وتناول الطعام معي.»
فتراجع وقال: «أما الجلوس في حضرتك فأطيعك فيه، وأما الطعام فلا حاجة لي به؛ لأني أكلت مع بواب الدير الساعة، وقد شغل بالي لإبطائك في دعوتي وخشيت أن يفشل مسعاك فأرجو أن أسمع أخبارا طيبة هل نجحت مع رئيس الدير؟»
قالت: «أحمد الله على ذلك، ولم يبقَ إلا أن نبلغ نتيجة أعمالنا إلى الأمير عبد الرحمن ليعلم كيف يتصرف مع تلك الداهية ميمونة، وأين جند العرب الآن يا ترى؟»
قال: «لقد علمت من حديث دار بيني وبين أحد الرهبان في هذا الصباح أن العرب أصبحوا على مقربة من هذا المكان ولكنهم قادمون من جهة الغرب، وأن جند شارل قادم من جهة الشرق وسيلتقي الجيشان في هذه الساحة جنوبي هذا الدير.»
فبغتت وأبرقت أسرتها، وقالت: «هل أنت واثق من ذلك يا حسان؟»
قال: «هذا الذي سمعته — يا مولاتي — والجميع يتناقلونه وأظنه صحيحًا.»
قالت: «فعلينا الإسراع في إبلاغ الرسالة، وكنت أود أن أذهب أنا أيضًا معك لولا إصرار الرئيس على بقائي هنا لغرض لا أعلمه.»
فقال: «لا بأس من بقائك في الدير إذ تكونين هنا في مأمن من كل شر؛ لأنه فضلًا عن تحصينه بالأسوار والأبراج فله مكانته عند الجيشين واتركي ما بقي من المهام عليَّ، فإني أفعل ذلك إن لم يكن إكرامًا لك فإكرامًا لنفسي، وفي فوز العرب فوزي وفي سقوطهم سقوطي.»
فتذكرت سالمة ما كان من حديث رودريك، وقد فاتها أن تخبره به بالأمس فقالت: «بورك فيك وعندي خبر جديد يهمك أكثر من كل ذلك.»
فقال: «وما هو يا سيدتي؟»
قالت: «أتذكر حفيدك سعيدًا؟»
فأجفل عند سماع ذلك الاسم لطول ما مر به من الأيام على إغفاله وهو يحسبه في عداد الأموات وقال: «كيف لا أذكره رحمه الله ورحم والده.»
قالت: «إنه لم يمت يا حسان.»
قال: «من؟ سعيد حي؟ أين هو.»
قالت: «هو في معسكر الدوق أود واسمه عندهم رودريك.» وقصت عليه ما تعرفه عنه، فأطرق واستغرق كأنه في حلم، ثم رفع بصره وقال: «وهو هو هناك الآن؟»
قالت: «لا أدري وإذا كان هناك فإنه يكون سجينًا.»
قال: «سوف أسعى إليه وأبحث عنه بعد ذهابي برسالتك إلى الأمير عبد الرحمن.»
فأعجبها منه إيثار خدمتها على البحث عن حفيده مع شدة قلقه عليه، فلما فرغت من الطعام أمرت حسانًا فجاءها بمداد، وتناولت منديلًا كتبت عليه رسالة إلى عبد الرحمن ودفعتها إلى حسان وقالت له: «سر في رعاية الله، وإذا احتجتم إليَّ في شيء فإني مقيمة هنا، وأرى قبل ذهابك أن تصلح من شأنك وتتزيا بزي الرهبان لتأمن غوائل الطريق، وأظن أن رفيقنا الراهب سيعود إلى ديره، فاصطحبه وبلغه سلامي.»
فودعها حسان وخرج.