معسكر عبد الرحمن
فلنرجع إلى ما كان في معسكر عبد الرحمن بعد طول سكوتنا عنه وانشغالنا بحديث سالمة تركناهم قرب مضيق دردون بعد أن فر الإفرنج من وجوههم، فمكثوا هناك ينتظرون رجوع سالمة من مهمتها، وقد رأيت ما كان من مقتل بسطام وفشل ميمونة، وعرف القارئ أنها لمباجة بنت الدوق أود، وكانت بارعة الجمال والدهاء كما رأيت، وقد وضعت نفسها موضع السبية خدمة لوالدها فانطلت حيلتها على عبد الرحمن ورجاله، ولولا سالمة لظل أمرها مكتومًا، وكانت سالمة قد عرفتها منذ قابلتها في الخباء، ولكنها خشيت أن يكتشف سرها هي فأجلت الأمر حتى تعود، ولو علمت حقيقة مهمتها ما صبرت عن أمرها فظلت ميمونة بعد ذهاب سالمة والكل يعتقدون أنها من وصيفات لمباجة وهي لا تدخر وسعًا في عرقلة مساعي العرب بكل سبيل، فلما فرغت يدها من وقعة دردون وتخلصت من التهمة، عمدت إلى أحد شياطينها فبعثت معه إلى والدها كتابًا أنبأته فيه عن مهمة سالمة والغرض الذي ذهبت من أجله إلى بوردو وبواتيه وغيرهما، وحرضته على القبض عليها؛ لأنه إذا حبسها فكأنه حبس نصف جيش المسلمين، فلم تدركها المكيدة إلا على أبواب بواتيه كما رأيت، وكانت ميمونة قد تحققت من عجز والدها عن دفع ذلك الجند من العرب بعد ما شاهدته في الوقعتين الأخيرتين بفضل اتحاد القبائل وعجزها عن تفريق كلمتها، فعمدت إلى شيطانها الأحول وبعثت معه إلى والدها تستحثه على الاستنجاد بشارل لعلمها أن أباها لا قبل له بذلك وحده، ومن غريب دهائها واحتيالها أنها كانت شديدة التأثير على والدها لا تكاد تشير عليه بأمر إلا حققه لإيمانه بحكمتها وسعة اطلاعها، وخاصة على أحوال العرب بعد الإقامة بينهم أعوامًا، ولما جاءه كتابها، كان قد يئس من الفوز وخاف على نفسه، فوافق رأيها مصلحته فبادر إلى الاستنجاد بشارل دوق أوستراسيا، فلبى هذه الدعوة لعلمه أنه إذا انتصر على المسلمين انتصر على أود وملك فرنسا كلها.
أما عبد الرحمن فلما طال غياب سالمة مل الانتظار، وبعث يبحث عنها في بوردو فعلم أنها خرجت منها منذ أيام، وكانت مريم مع تعلقها بهانئ واستغراقها في لجج العواطف أشد الجميع قلقًا على والدتها، وكان هانئ يختلس الفرص في أثناء الإقامة هناك ويجتمع بمريم، إما في الخباء أو في الصحراء، ويتحادثان ويتشاكيان في غفلة من الرقباء، وعبد الرحمن يغض النظر، حتى تمكنت المحبة بينهما وكادا يتناسيان الحرب وأسبابها لو لم يكن زواجهما متوقفًا عليها وعلى اختراق أكيتانيا إلى نهر لوار، ولذلك فإن هانئًا لم يكن يفتر عن تحريض عبد الرحمن على السير قبل فوات الفرصة واستعداء الأعداء، وعبد الرحمن يأخذ الأمر بالتؤدة والتأني حتى جاءهم الجواسيس ذات يوم بخبر استنجاد أود بشارل، فعقد عبد الرحمن مجلسًا من الأمراء حضره هانئ وأطلعهم على الخبر، فقال هانئ: «وهذا ما كنت أخشاه، ولذلك كنت أستعجل الأمير في التقدم.»
فقال عبد الرحمن: «فالذي أراه أن نبادر حالًا إلى المسير.»
قال هانئ: «هذا هو رأيي.»
ولبث عبد الرحمن ساكتًا ليسمع آراء سائر الأمراء وفيهم أمراء البربر فلم يفه أحد منهم بكلمة، فتخوف من ذلك السكوت وأدرك هانئ خوفه، وعلم أن مطامع البرابرة متعلقة بالغنائم والسبايا، وأنهم لما علموا باتحاد جيشي أكيتانيا وأوستراسيا خافوا على أنفسهم فوقف هانئ وهو يبتسم وقال: «لا حاجة بنا إلى طول البحث في هذا الشأن، فإن الله قد ضم جيش أوستراسيا إلى جيش أكيتانيا غنيمة لنا؛ لأن عند أولئك من الأموال والتحف ما لا تقاس به تحف هذه البلاد، وإذا انتصرنا على الجيشين مرة واحدة ملكنا هذه الأرض الكبيرة كلها، وقطعناها حتى نذهب إلى رومية والقسطنطينية فنتم فتح العالم كله، وننشر الإسلام بين الناس كافة، ويكون الفضل في ذلك لسيوفكم وخيولكم.» قال ذلك وقد مزج طلب الغنائم بالجهاد حتى لا يفتر طالب الغنائم عن تلبية دعوته وما أتم كلامه حتى صاح الجميع بصوت واحد: «الخيل! الخيل!»
فقال عبد الرحمن: «بارك الله فيكم ونفع الإسلام بكم.» ثم أمر بالاستعداد للرحيل، ولما انصرف الأمراء بقي هانئ وعبد الرحمن ولاحظ هانئ على عبد الرحمن انقباضًا، فقال: «ما بالك منقبض النفس وقد أطاعنا هؤلاء على المسير؟»
قال: «أنت تعلم يا هانئ أنهم لا يحاربون إلا طمعًا في الأموال وقد تجمعت الغنائم عندهم حتى كادوا ينوءون تحت أثقالها فالرجل منهم لا يكاد يستطيع حمل طعامه وغنائمه، فبماذا يقاتلون؟»
قال هانئ: «لقد نبهتني أيها الأمير إلى أمر ذي بال: إن تعلق هؤلاء البرابرة بالغنائم ضربة ثقيلة على هذا الجيش ليس لاستئثارهم بها دون سواهم، ولكن لأنها تشغلهم عن الحرب، فإذا حملوها أثقلتهم وأعاقت حركتهم، وإذا تركوها خلفوا قلوبهم معها، فلا بد من حيلة نحتالها عليهم في ذلك.»
فأطرق عبد الرحمن ثم وقف، فوقف هانئ معه وتشاغل عبد الرحمن بإصلاح عمامته وهانئ بإصلاح حسامه، ثم التف عبد الرحمن بعباءته وهو يقول: «لا بد لنا من النظر في هذا الأمر، وفي اعتقادي أن ترك هذه الغنائم الثقيلة والذهاب إلى الحرب بدونها أربح لنا جميعًا، ولكن من يجسر أن يقول لهؤلاء البرابرة: تخلو عن غنائمكم! ونحن إنما رغبناهم في الحرب بذكر الغنائم والأموال.»
فضحك هانئ وقال: «أظنك لاحظت ذلك من عبارتي في هذا الشأن وقد كان في نفسي أن أرغبهم في سرعة المسير إلى تورس بذكر ديرها الغني؛ لأن بقربها ديرًا يقال له دير القديس مرتين هو من أغنى الأديرة الإفرنجية ولكنني خشيت إن أنا قلت لهم ذلك أن يشتغلوا بنهبه عن الحرب، فنكسب عداوة الأهالي والكهنة فضلًا عن عداوة الجند.»
قال عبد الرحمن: «لقد أحسنت بالسكوت عن ذلك والذي أراه أننا متى وصلنا إلى ساحة الحرب ندبر تدبيرًا لا يغضب أحدًا فنجعل هذه الغنائم في مكان خاص فيكون أصحابها في اطمئنان لا يخافون عليها بأسًا أو نجعلها وراء الأخبية، أو بينها وبين الجند.» فمشى هانئ وهو يقول: «سننظر في ذلك في حينه.» وخرجا لإعداد معدات السفر.
أما مريم فقد كانت لا تزال على اعتقادها في إخلاص ميمونة، وهذه لم تكن تدخر وسعًا ولا تضيع فرصة لا تجتذب فيها قلب مريم بالإطراء والإعجاب، ومريم — لسلامة نيتها وصدق محبتها — كانت تثق بميمونة ثقة تامة، ولم يكن ذلك عن جهل أو بله ولكن حر الضمير يصدق الناس ويعتقد أنهم يصدقونه، فإذا سمع قولًا صدقه لسلامة نيته وصدق لهجته، وفي جملة ما استخدمته ميمونة من أسباب الخداع لمريم أنها كانت تحدثها بحوادث وقعت لها مع عبد الرحمن أو غيره، تزعم أنها مما لا يُفشى لغير الأصدقاء الأخصاء وتتوقع أن تفشي لها مريم شيئًا من سرها مع هانئ، ولكن مريم كانت شديدة الحرص على أسرار الحب وميمونة تسايرها في كتمانه فيزيدها ذلك استسلاما لها، فلما تمكنت ميمونة من مريم وكسبت ثقتها أصبحت مريم لا تفارقها إلا ساعة النوم، أو عندما تلتقي بهانئ أو لأسباب قاهرة.