ساحة القتال
وفي صباح الغد قوضوا الخيام ووضعوا الأحمال على الجمال والبغال وسار الجند على نسق خاص المشاة حسب قبائلهم وأمام كل قبيلة راية خاصة بها يحملها أحد فرسانها، وقد يكون للقبيلة عدة رايات تخفق في الهواء حتى إذا نظر ناظر إلى ذلك الجند وراياته عن بعد ظن الرايات أشرعة وظن حامليها سفنًا، والناس بحرًا ومسيرهم موجًا يتلاطم، وكأن عمائمهم البيضاء وبجوانبها رءوس الأسنة تكسر الموج على سطح البحر، وكان من جملة المشاة رجال البربر بحسب قبائلهم ومعهم سائر الموالي من غير العرب كالنبط والشوام وغيرهم، وهم سائرون بإزاء العرب، وملابسهم تختلف عن ملابس العرب بعض الشيء، وأما الفرسان فقد اصطفوا فرقة على حدة تتقدمها الرايات بحسب الأمراء، وراية هانئ أكبرها جميعًا وأكثر الفرسان بالدروع المتينة وعلى رءوسهم الخوذات الفولاذية، وكان عبد الرحمن يسير تارة بجانب هانئ أمام الأمراء أصحاب الأخبية ومعهم النساء والأطفال في هوادج، إلا مريم فكانت على جواد كأحد الفرسان، وكانت ميمونة تتظاهر بالرغبة في ملازمتها فتركب جوادًا إلى جانبها، ويجيء وراء تلك الحملة ساقة الجند وأمامهم الأحمال والأثقال، وكان عبد الرحمن وهانئ إذا دارا حول ذلك الجيش أو نظرا إليه من أكمة اطمأنا لكثرته وتوسما النصر به.
وكان المسلمون يسيرون ولا يلاقون في طريقهم إلا حقولًا مهجورة وأدوات متروكة وبيوتًا خالية، فيأخذون ما شاءوا ويتركون ما شاءوا، حتى إذا أمسى عليهم المساء يحطون رحالهم فيأكلون وينامون ثم ينهضون، فلما وصلوا بواتيه، لم يلاقوا منها مقاومة كبيرة؛ لأن معسكر أود كان قد بعد عنها، وقليل من الجند من دخل المدينة؛ لأن مقصدهم كان مدينة تورس قاعدة تلك الناحية وعندها جند الإفرنج.
وأنبأهم الخبراء ذات الصباح أنهم أصبحوا على مرحلة من نهر لوار، فاستراحوا وأصلحوا شئونهم وساروا — وعبد الرحمن وهانئ يتقدمان الجند — نحو ميل ومعهما كبير الخبراء لاستكشاف مواقع العدو قبل النزول، وليختاروا مكانًا يعسكرون فيه، وفي أصيل ذلك اليوم صعدا على رابية على ضفة نهر شير ووليا وجهيهما نحو الشرق فكان نهر لوار إلى يسارهما عن بعد والشمس وراءهما فنظرا إلى ما بين أيديهما شرقًا، فأشرفا على سهل واسع مثلث الشكل قاعدته ضفة نهر لورا إلى يسارهما ورأس المثلث في الجنوب وشاهدا عنده خيامًا وأعلامًا، فعرفا أنه معسكر الدوق أود، وبين هذا المعسكر وضفة نهر لوار سهلٌ واسع، طوله نحو ميلين، يصلح ميدانًا للقتال لخلوه من الأغوار، حتى ينتهي عند قاعدة المثلث بالأبنية على ضفة النهر وأقربها إليها مدينة تورس ثم محلة دير القديس مرتين، ومع بعدها عنهما فإنهما عرفاها من فخامة ديرها وقبة كنيستها، وشاهدا وراء تلك المحلة مما يلي النهر حركة وغبارًا عرفا مما يتخلل ذلك من الأعلام والخيول أنها حركة جند قادم من جهة النهر فأمر عبد الرحمن رجلًا في ركابه أن يمضي إلى جند المسلمين فيأمرهم بالوقوف حيث هم ريثما يعود من هذا الاستكشاف، ثم التفت إلى الخبير وكان من الإفرنج وقد تعلم العربية وقال: «أليس هذا دير القديس مرتين؟»
قال الخبير: «بلى، يا مولاي، هذا هو أغنى الأديرة النصرانية في هذه البلاد.»
قال: «وما الذي تراه وراءه؟»
قال: «أرى جند الدوق شارل يعبر النهر من ضفته الشمالية إلى الضفة الجنوبية، وقد علمت من رجل لقيته في هذا الصباح قادمًا من محلة هذا الدير أن الدوق المذكور أخذ منذ بضعة أيام في نقل رجاله على جسور من السفن، ولم يفرغ بعد لكثرة ما بها من الرجال والأحمال.»
قال: «ألا يعرفون عدد جنده؟»
قال الخبير: «لم يحصوه، ولكن لا ريب عندي أن الدوق شارل جرد كل ما يستطيع تجريده من قبائل الإفرنج في أوستراسيا وما وراءها لعلمه بشدة بأس المسلمين وقوتهم، ولأن على حربه هذه يتوقف إما امتداد سلطانه على فرنسا كلها أو خروج أوستراسيا من يده.»
فقال هانئ: «وسيتحقق الأمر الثاني بإذن الله.»
فاعترض عبد الرحمن كلامه قائلًا: «أليس ما نراه إلى يميننا في الجنوب معسكر الدوق أود شريد مضيق دردون؟»
فضحك الخبير وقال: «بلى يا سيدي، وهو شريد على كل حال؛ لأنه سواء انتصر عبد الرحمن أو شارل فإن سلطانه على أكيتانيا سيخرج من يده إما لكم وإما لشارل، فحاله تستوجب الشفقة.»
فاكتفى عبد الرحمن بما سمعه، وفكر في اختيار مكان يعسكرون فيه فقال هانئ: «لا أرى لنا مكانًا نعسكر فيه خيرًا من النقطة التي نحن فيها، فنقطع هذا النهر الصغير (شير) ونعسكر وراءه فنكون على بعد واحد تقريبًا من هذين الجيشين، وإذا تضاما فنكون متقابلين ويكون هذا الماء وراءنا فإذا قضت الحرب أن نقهر — لا سمح الله — قطعنا النهر وجعلناه خندقًا بيننا وبينهم.»
فأعجب عبد الرحمن برأي هانئ وابتسم له ابتسام والد سمع من ابنه عبارة تدل على الذكاء، وقال: «لقد رأيت الصواب وأزيد على ذلك أن نترك أثقالنا وأحمالنا ونساءنا هنا ولا يقطع النهر إلا الرجال المحاربون فنكون في اطمئنان على أموالنا وأعراضنا، وأرى أن نترك هنا أيضًا الغنائم التي أثقلت رجالنا فيذهبون إلى الحرب خفافًا، وقد أخبرتك بأن أمر هذه الغنائم أقلق راحتي، فإذا لم نقنع رجالنا وخصوصًا البرابرة بالتخلي عنها يوم الحرب كانت سببًا في فشلنا، وأنت تعلم أن الرجل إنما يغلب بخفة حركته.»