مشكلة الغنائم
قال هانئ: «لنعقد مجلسًا — إذا أمرت — نحدث الأمراء فيه ونقنعهم بوجوب التخلي عن الغنائم ونبين لهم ما يترتب على حملها من الأضرار ونرى ماذا يكون.» وكان في ركاب عبد الرحمن أيضًا صاحب النفير (البوق) فأمره أن يذهب إلى المعسكر فيخبر الأمراء بمبيت الجند هذه الليلة حيث هم، ثم يدعو الأمراء إلى تلك الأكمة حيث كانا واقفين للبحث في موضوع المكان الذي سيعسكرون فيه فأسرع الرسول، ولم تمضِ هنيهة حتى تقاطر الأمراء على جيادهم، فلما وصلوا نزل عبد الرحمن عن جواده وهانئ عن أدهمه، فنزل سائر الأمراء وسلموا جيادهم إلى الخدم، ووقفوا على تلك الرابية فأطلوا على سهل تحف به تورس ومحلة القديس مرتين من الشمال إلى يسارهم، ومعسكر أود من الجنوب إلى يمينهم فقص عليهم عبد الرحمن ما خطر له بشأن المكان الذي يعسكرون فيه بحيث يكون الماء وراءهم إلى أن قال: «وأستشيركم في أمر هام أظن أن فيه خيرًا لنا، وهو ألا يعبر هذا النهر منا غير الرجال المحاربين، وأن نترك النساء والأحمال هنا ومعهم من يحميهم فما رأيكم؟»
فقال اثنان من أمراء القيسية: «لقد رأى الأمير صوابًا.» فوافق سائر الأمراء على ذلك.
فقال عبد الرحمن: «وهناك أمر ذو بال طالما خشيته على هذا الجند، وذلك أن جندنا قد أصبح من كثرة ما أفاء الله على المسلمين من الغنائم مثقلًا بالتحف والأموال، حتى لقد يتعذر على الرجل أن يحمل غنائمه فكيف يستطيع القتال بها؟ فالذي أراه أن نجعل الغنائم المذكورة في مكان أمين في جملة ما سنخلفه هنا عند ذهابنا في الغد، فنجعل تلك الذخائر والتحف في خيمة خاصة يحرسها من تثقون به من رجالكم، كما فعلنا بقرب بوردو.»
فلم يتم عبد الرحمن كلامه حتى اعترضه شاب من أمراء البربر قائلًا: «أما نحن فلا نوافق على هذا الرأي، ولا تذكرونا بما أصابنا في بوردو على أثر مثل هذا العمل، فقد احتفظنا بالغنائم هناك حسب أمركم فكانت النتيجة أننا خسرنا أكبر أمرائنا وأشجع رجال هذا الجند.»
فلما سمع عبد الرحمن تلك العبارة، وما تنطوي عليه من التعريض بمقتل بسطام مع ما تدل عليه من الضغينة والحقد خشي الانقسام إذا هو اعترض عليه أو وبخه لعلمه أنه لم يجسر على هذا القول إلا وهو مدفوع من جماعة، فتظاهر عبد الرحمن بالسذاجة والأسف وقال: «في الحقيقة إننا خسرنا في تلك الوقعة خسارة يصعب تعويضها؛ لأن الأمير بسطامًا يندر أن يجود الزمن بمثله ولكنني لا أرى علاقة بين مقتله والغنائم.» ثم التفت إلى جمهور الأمراء وقال: «أظنكم توافقونني على تناسي ذلك الحادث والاشتغال بما هو أهم منه، وقد عرضت عليكم رأيًا فإذا كنتم ترون فيه خطأ فبينوه؛ لأن الهدف واحد، والمصلحة واحدة.»
فتهامس الأمراء وتداولوا مليًّا ثم قال أحد أمراء اليمنية: «أرى الأمير على صواب في رأيه؛ لأن الرجل منا لا يستطيع الحرب وهو مثقل بالأحمال، وإذا خسر الإنسان غنيمته وانتصر في حربه عوض أضعافها.»
فوافق على ذلك كثيرون ولحظ هانئ أن البربر لا يزالون يلوذون بالصمت، فخشي الفشل فقال: «وأزيد على ما قاله الأمير أننا إذا انتصرنا في هذه الوقعة كانت غنائمنا فوق ما تدركه العقول؛ لأن الدوق قارله (شارل) صاحب هذا الجند وأشار إلى جند شارل قد حمل معه كل ما في بلاده من التحف وكل ما في الأديرة والكنائس والقصور، فإذا انتصرتم عليه ظفرتم بالغنى والفخر والسعادة.» قال ذلك بلهجة تحمل كل معاني الإخلاص، وهو يبتسم ويتفرس في وجوه الأمراء.
فلم يجد أمراء البربر ما يدفعون به قوله، فتكلم شيخ من أمرائهم قائلًا: «لا ريب في أن الجندي لا يستطيع الحرب إلا إذا كان خفيفًا، ولكن من لنا بمن يقنع أفراد الجند بأن يتركوا غنائمهم التي ظفروا بها بعد شقِّ الأنفس وهم لا يطمعون في إمارة أو قضاء وإنما ربحهم من هذه الحرب ما يرجعون به من الغنائم، فعندي أننا بدلًا من أن نترك الغنائم هنا نحملها معنا في صباح الغد ونجعل لها مكانًا بجانب معسكرنا، فإن ذلك أيسر على أصحابها من أن يتركوها في مكان يحول بينهم وبينه نهر.»