دعوة خطرة
وكان هانئ قد دخل الغرفة وذهب الراهب فأتاهم بالشمع فأضاءوه وغرسوه في مشمعة ناتئة من الحائط وعاد الراهب، وكانت مريم تفكر في صلتها بهانئ؛ لأنها أحبته ووالدتها لا تعلم، وقد أوصلها إلى أمها وسيرجع قريبًا ولا طاقة لها بفراقه، وهي تريد أن تستطلع رأي والدتها بشأنه، فإذا لم توافقها على حبه كانت المصيبة كبيرة عليها، وأرادت من ناحية أخرى أن تشغلها عن حديث حسان، فقالت: «ألا تعرفين الأمير هانئًا يا أماه؟»
فابتسمت وقالت: «كيف لا أعرفه؟ أليس هو الذي أنقذنا من ذلك الأمير البربري؟»
قالت: «بلى وهو أكبر أمراء جند العرب بعد الأمير عبد الرحمن، والأمير عبد الرحمن يحبه ويعتمد عليه؛ لأنه أمير الفرسان ويده اليمنى في تدبير الجيش.»
فخجل هانئ من هذا الإطراء وأحب أن يعترض ليخفي خجله، فلم تمهله سالمة فقالت: «لم يخفَ عليَّ شيء من شأن هذا الأمير وقد صحبته في مهمة إلى أسقف بوردو ألا تذكرين ذلك؟»
فانشرح صدر مريم واطمأن بالها وهمت بالانتقال إلى ما وراء ذلك فسمعت دبدبة وضوضاء فتوقفت، وأنصتوا جميعًا ثم سمع هانئ جواده يصهل صهيلًا متواصلًا كأنه يطلب النزال فوقف هانئ وهو يقول: «أرى جوادي يدعوني إلى النزال وهو ينبهني إلى سرعة الرجوع.»
وما أتم كلامه حتى سمعوا خطوات قادم على السطح، ثم فتح الباب ودخل الراهب رفيق حسان، وكانت سالمة تحسب أنه قد سافر معه فلما دخل رحبت به ودعته للجلوس، فإذا هو يهم بالكلام والبغتة ظاهرة في وجهه وكأنه أراد أن يتكلم فارتج عليه فظنته أمسك حياء من الحاضرين، فقالت له بالإفرنجية: «تفضل يا حضرة الأب، أخبرنا بما عندك وليس هنا أحد غريب.»
فقال ولسانه يتلجلج: «كلفني رئيس هذا الدير أن أبلغك أمرًا يعز عليَّ أن أنقله إليك.»
فخفق قلب سالمة ومريم، أما هانئ فلم يفهم شيئًا؛ لأنه لا يعرف الإفرنجية ولكنه لاحظ من تغيير الوجوه ما أقلقه، فقالت سالمة: «قل يا حضرة الأب.»
قال: «إن الدوق أود بعث بكوكبة من الفرسان بالعدة والسلاح وقد وصلوا إلى الدير ومعهم رسول يحمل كتابًا إلى حضرة الرئيس يطلب منه فيه أن يبعث بك إليه، ولما يعلمه الرئيس من دالتي عليك فقد بعث إليَّ وأطلعني على ذلك الكتاب وتشاور معي في شأنه، فأشرت عليه أن يمتنع عن تسليمك فأظهر أنه يرغب في ذلك من صميم فؤاده ولكنه يخشى العاقبة، وهو لا يدري لمن تكون الغلبة في الحرب القادمة، وواجباته تقضي عليه أن يكون نصيرًا للإفرنج، ثم كلفني أن أكون أنا برفقتك من قبله لأوصي الدوق أود برعايتك، وإذا شئت أخذنا من الرئيس كتاب توصية بشأنك أيضًا.»
وكان الراهب يتكلم ولسانه يكاد يتلعثم، والتأثر بادٍ في كل حركة من حركاته، وكانت سالمة ومريم تصغيان وقد شخص بصرهما في الراهب كأنهما أصيبتا بالجمود، فلما فرغ من قوله وقف شعرهما وخصوصًا مريم، وكان هانئ ينظر إليهما ويقرأ تلك العواطف في وجهيهما، فلما فرغ الراهب من الكلام قال هانئ: «ما الخبر؟»
قالت مريم: «إن الدوق أود بعث إلى رئيس هذا الدير يطلب والدتي منه.»
قال هانئ: «وماذا يريد منها؟»
قالت: «يطلبها لغرض لا نعلمه.»
قال هانئ: «لا تذهب.»
فقالت سالمة: «بل أرى أن أذهب؛ لأني لو أبيت الذهاب لأخذوني قهرًا.»
فصاح هانئ: «قهرًا؟ يأخذونك قهرًا وهانئ معك؟ ذلك لا يكون أبدًا.»
ووقف ويده على قبضة حسامه، وقد أخذ الغضب منه مأخذًا عظيمًا.
ففرحت مريم بما أبداه هانئ من الحمية بشأن والدتها، ولم تكن هي أقل حمية منه فقالت: «كيف نسمح يا أماه أن يأخذوك أسيرة ولو كانوا ألوفًا إننا سندافع عنك إلى الموت.»
فقالت: «أعلم ذلك ولكن شروط الحرب تقضي علينا ألا نعرض أمير فرسان العرب وعمدة أمرائهم لشرذمة من الإفرنج فربما أصابه أحدهم بنبل، كما أصابوا حسانًا بالأمس، فيذهب الأمير هانئ رخيصًا — لا سمح الله — وهو عميد جند العرب وقائدهم ووساطة عقدهم فكأننا عرضنا الجند للخطر فإذا كنتما تحبانني فأطيعاني فيما أقول ولا تخافا عليَّ بأسًا؛ لأني سأسير مكرمة، وسيكون معي حضرة الراهب، وسأحمل من رئيس الدير كتاب توصية أو نحوه بحيث لا أخشى ضررًا، بل أرجو أن أخدم العرب وأنا هناك خدمة لا أستطيعها وأنا معكم ومع ذلك فلا حيلة في قضاء الله.»
فقال هانئ: «إنك تحاولين محالًا هل أكون حاضرًا وتساقين أنت أسيرة؟ لا يكون ذلك أبدًا والله لأعملن السيف في الإفرنج ولو كانوا ألوفًا.»
فقطعت سالمة كلامه قائلة: «إذا فعلت غير ما أقوله فإنك تكدرني وأنا أعلم إنك لا تريد ذلك إن الدوق أود يعرف عني أكثر مما تعرف أنت أو تعرفه ابنتي هذه وهو لا يطلبني إليه ليسوءني، ولو كان غرضه ذلك لفعله وأنا سجينة عنده إلى الأمس، دعنا الآن من هذا البحث، وأرغب إليك بشرف العرب وعز الإسلام أن تطيعني في ذلك، وقد آن لي الأوان أن أطلعكما على شيء جديد حفظته سرًّا منذ أعوام.» ثم التفتت إلى الراهب وقالت: «قل لحضرة الرئيس إني أتأهب للخروج حسب أمره بعد ساعة أو ساعتين لغرض لي مع ابنتي هذه قبل سفري.»
فحنى الراهب رأسه وخرج.