بعد المعركة
فلما تراجع الجيشان تحول هانئ إلى مكان عبد الرحمن فلم يجده، فسأل عنه فلم ينبئه أحد بخبره، فأركض فرسه للبحث عنه هنا وهناك فلم يقف له على أثر، فأمر فرسانه بالرجوع إلى أماكنهم وترجل هو ومريم عن فرسيهما وجعلا يطوفان ميدان المعركة يتفحصان القتلى على نور الشفق، ثم طلع القمر فأضاء تلك البقعة المغطاة بجثث الناس وفيهم الميت والجريح والعاجز، وبينهم الأفراس في نحو ذلك بين صهيل وشخير وأنين وزفير، فتفقدا كل مكان فلم يجدا عبد الرحمن، وإذا هما بصهيل يشبه صهيل فرسه عن بعد فأجفلا واستبشرا، فالتفتا إلى أطراف تلك الساحة، فرأيا في أحد جوانبها مما يلي الجنوب فرسًا واقفًا وهو يصهل ويفحص الأرض، فصاح هانئ: «هذا فرس الأمير.» وأسرع إليه ومريم تتبعه حتى وصل إلى الجواد فرآه واقفًا وأمامه شبح ملقى، عرفا أنه عبد الرحمن، فأسرع هانئ إلى يده يجسها فإذا هو جثة هامدة، وقد استلقى على ظهره وبسط ذراعيه وعيناه شاخصتان نحو الشرق كأنهما تستقبلان نور القمر عند طلوعه، وشاهدا سهمًا مغروسًا في عنقه فعلما أنه سبب وفاته، فجثا هانئ عند رأسه وصاح: «وا أسفاه عليك يا أميري ووالدي ويا أخي ويا نصيري، بل يا نصير المسلمين، ولكنك فزت بجنات النعيم؛ لأنك قتلت مجاهدًا فعسى أن ألحق بك عاجلًا.»
وكانت مريم واقفة تنظر إلى تلك الجثة وتأسف لقتل ذلك القائد، لكنها كانت تتعزى ببقاء هانئ حيًّا وترجو له النصر، فإذا فاز بالفتح أصبح أكبر قواد ذلك الجند، وقد نفر سمعها من تمنيه اللحاق عاجلًا بعبد الرحمن، فقالت: «دعنا من الندب فإنه يليق بالنساء، وهلم بنا إلى المعسكر ندبر شئون الجند قبل الفشل، وإذا فزنا في الغد — ونحن الفائزون إن شاء الله — ففي ذلك تعزية عن كل خسارة.» فاستصوب هانئ قولها وقال: «فلا بد لنا من دفنه.»
قالت: «متى وصلنا إلى المعسكر أرسلنا من يأتي بالجثة ثم تصلون عليها وتدفنونها.» قالت ذلك ومشت وهي لا تزال مسترسلة الشعر مكشوفة الذراعين لا تبالي بما في صفاء ذلك الليل من برد الخريف، ومشى هانئ والسيف يجر وراءه وقلبه في شغل تتنازعه عوامل الفشل والأسف والأمل، وتظلله غياهب الحب والوجد، ومريم تسير إلى جانبه وهي في مثل حاله، وقد وليا وجهيهما نحو المعسكر وساحة المعركة إلى يمينهما ومعسكر أود إلى يسارهما وليس في تلك الساحة أنيس، ولا يسمعان فيها غير الأنين والزفير، وربما شاهدا بعض العبيد يبحثون في الجثث يلتقطون ما بينها من سلاح أو آنية أو حلي، ولاحت من هانئ لفتة إلى جثة بين يديه عليها ملابس الإفرنج كاد يتعثر بها فأراد أن يعرج عنها فرأى في وجهها شيئًا يعرفه، فتفرس فيها فإذا هي جثة رودريك، فبغت وقال: «ألا تعرفين هذا الوجه يا مريم؟»
فنظرت إليه وقالت: «كلا.»
قال: «هذا رودريك حفيد حسان، وكان قد حمل إلينا بالأمس رسالة من والدتك أنبأتنا فيها بأمور كثيرة عن أحوال هذا الجند ساعدتنا على حربهم اليوم، وأخبرنا أنها عند أود في خير وإكرام، ثم عاد مسرعًا إليها لعلها تحتاج إليه في مهمة أخرى، فما الذي جاء به إلى هنا يا ترى حتى قتل؟»
فصاحت مريم: «أرى في يده شيئًا كالكتاب أظنه رسالة من والدتي.»
قالت ذلك ومدت يدها لإخراج الكتاب من قبضته، فلم تستطع كأنه قابض عليه بقوة، فارتعشت جوارحها؛ لأنها تصورت الرجل حيًّا، فتقدم هانئ ونزع الكتاب بعنف وهو يقول: «يظهر أنه مات منذ هذا الصباح.» وناول الكتاب لمريم وهو لفافة من جلد فصاحت: «رسالة! رسالة من والدتي فلنقرأها!»
إلى الأمير عبد الرحمن سلام — أما بعد — فإني أكتب هذا الكتاب إليك عند الفجر والناس نيام، وقد بت بالأمس قريرة العين بما شاهدته من شجاعة العرب وتجددت آمالي بالنصر، ثم بلغني تدبير دبرته تلك المرأة المسماة ميمونة إذا وفقت إلى إتمامه كانت العاقبة وخيمة — لا سمح الله — وذلك أنها اجتمعت في هذا الليل بوالدها وأخبرته بما عليه رجال البربر من ضعف الإسلام والتعلق بالغنائم، وأشارت عليه إذا نشبت الحرب في هذا اليوم وخشي تقهقر الإفرنج أن يبعث بشرذمة من رجاله يسطون على مستودعات الغنائم في معسكركم، وأن يبعث أناسًا عليهم ملابس العرب يصيحون في جندكم، أن الغنائم قد أخذت، وسيتولى ذلك عدلان البربري الأحول؛ لأنه يستطيع التنكر في مظهر عربي، وتكفل — قبحه الله — بقتل أدهم الأمير هانئ لتضعف الفرسان وهم أقوى جنودكم علمت بهذا التدبير من الشاب رودريك وسأرسل هذا الكتاب معه، ولكني أتوجس خيفة عليه من عدلان لئلا يفعل به كما فعل بجده، أو ربما أصابه نبل في أثناء ذهابه، ولا حيلة لي في تلافي ذلك إذ لا بد من إبلاغ هذا التدبير إليكم بالوسائل الممكنة فإذا أدرككم كتابي هذا في حينه ونفعكم ما فيه فإني ضامنة لكم النصر بإذن الله، وإلا فإني أخاف عليكم العاقبة، وإذا أخفق هذا المسعى — لا سمح الله — وقدر النصر للإفرنج فلن تقوم للعرب قائمة في هذه البلاد، أما أنا فقد أتممت المهمة التي انتدبت لها، ولا حاجة لأن أوصيك بمريم فإنها في رعايتك وإن كنت لا أرضى لها البقاء إذا انكسر العرب، ولا هي ترضاه لنفسها، وإذا فشل العرب ولم يقطعوا نهر لوار فلا قيمة للحياة، ولذلك فلا تطلبوني فإنكم لن تجدوني في أي مكان والملتقى في الدار الآخرة فإنها تجمع شتات المحبين والسلام.
وما أتت مريم على آخر الكتاب حتى وقف شعرها وارتعشت أناملها وغشى الدمع عينيها والتفتت إلى هانئ، فإذا هو مطرق يفكر، ثم رفع بصره إليها وقال: «قد علمت الآن سرَّ الانقلاب الذي أصاب جندنا بعد أن كدنا نهزم الأعداء.»
فقالت: «لعن الله لمباجة وعدلان خادمها إذ لولاهما لكنا الآن في معسكر شارل وفي الصباح نقطع ذلك النهر.»
فقال: «العيب يا مريم مرجعه إلى جندنا فإنه متفرق الكلمة متباين الأغراض، وخصوصًا أولئك البربر فإنهم لا يفهمون من الحرب غير السلب والنهب، ولولا دراية الأمير عبد الرحمن — رحمه الله — وحسن أسلوبه وسعة صدره ما استطعنا الوصول إلى هنا، وقد مات عبد الرحمن الآن ولا نعلم ما يصير إليه أمرنا بعد.»
فقالت: «نعم إن مقتل هذا الأمير خسارة كبرى، ولكننا لا ينبغي أن ننوء تحت هذا العبء، وإني أقدم نفسي لما تنتدبني إليه في هذه الحرب.»
قال: «يكفي منك تحريض الأمراء على الاتحاد والصبر، فقد رأيت من تأثير أقوالك في وقعة اليوم ما أدهشني.»
قالت: «لك عليَّ ذلك؛ لأني إن لم يفز هذا الجند فلن يكون لي بقاء تلك هي وصية والدتي في هذا الكتاب.»
فقال: «وأنا هل أبقى وحدي؟ ولكني أرجو ألا نتعرض لهذه الأخطار، هلم بنا إلى المعسكر.» قال ذلك ومشى، فمشت مريم وهي لا تزال حاسرة الرأس مسترسلة الشعر لا تنتبه لنفسها حتى إذا اقتربا من المعسكر، لم يسمعا جعير الجمال ولا صهيل الخيل، ولا رأيا نارًا ولا حركة ولا شيئًا يدل على الجند مع أن الخيام كانت لا تزال باقية كما هي، فأسرع إلى فسطاط الأمير الكبير فإذا هو خالٍ خاوٍ، فخرجا منه إلى ما يجاوره وطلبا خيمة الأمير هانئ فوجداها خالية، وبالجملة فقد كان معسكر العرب كأنه خيام منصوبة في الصحراء لا إنسان فيها ولا دابة حتى ولا حشرة.
فقضيا برهة يتمشيان وهما صامتان من الدهشة والاستغراب ثم تكلم هانئ قائلًا: «ما الذي أراه؟ أين ذهب الجند؟ أين الخدم؟ أتظنينهم ذهبوا نحو الأخبية ليجعلوا هذا النهر الصغير ترسًا لهم في الدفاع؟»
قالت: «ربما فعلوا ذلك هل نذهب إلى الأخبية؟»
قال: «نذهب» وخرجا من بين الخيام كأنهما خارجان من مكان خرب حتى عبرا النهر الصغير إلى الأخبية فلم يجدا فيها أنيسًا، فقال هانئ: «إذا فرضنا أن البربر جبنوا وفروا، فأين العرب؟ بل أين النساء والأولاد؟ ما أسرع نهوضهم وفرارهم يظهر أن وجود عبد الرحمن وحده كان جامعًا لهم فلما مات، ماتت قلوبهم.»
ثم أطرق حينًا لا يتكلم، وقلبه يكاد ينقطع حنقًا ويأسًا، لا يدري ماذا يقول، وقد حدثته نفسه بأمور كثيرة أكبر أن يذكرها، وكانت مريم تسير بجانبه لا تقول شيئًا، وهي تكتم أمرًا أجلت التصريح به حتى تسمع رأيه فيه، وبعد المسير مدة على مثل هذه الصورة بين الأخبية والخيام وكل منهما غارق في أفكاره يتعثر بالأطناب والأوتاد، قال هانئ: «يجب علينا قبل كل شيء أن نواري جثة أميرنا — رحمه الله — لئلا تذهب فريسة العقبان أو يمثل بها الأعداء.» قال ذلك وتحولا نحو ساحة المعركة فعرفا مكان الجثة من صهيل الجواد، فتعاونا في حملها على الفرس إلى حفرة في مكان منفرد، وضعاها فيه وأهالا عليها التراب ولم ينبس أحد منهما ببنت شفة، فكان لذلك الدفن على بساطته هيبة ووقار بما كان يضطرم في قلبيهما من نيران الحزن والأسف المريرين، فضلًا عما كان يضطرم من نيران الحب ولواعج الغرام.