هانئ
ولما بلغت في حديثها إلى هذا الحد، توقفت وتنحنحت وتشاغلت بمسح فمها، وعبد الرحمن ينظر إليها وهو يستغرب حديثها لما فيه من الحكمة وسعة الاطلاع، وجعل يتأمل ملامحها ويفكر فيمن عسى أن تكون هذه المرأة وصبر لعل في خاتمة حديثها ما يكشف له القناع عن حقيقتها ولكنه أراد أن يستوضحها الأمر، فاغتنم فرصة سكوتها وقال لها: «يظهر لي أنك أكثر اطلاعًا على حقيقة الأحوال من معظم رجالنا، وأشد غيرة على مصلحة المسلمين من أنفسهم.» ثم تنهد وقال: «إن الأمر الذي ذكرته يا فتاة هو الواقع بعينه، وأظنك سمعت أني استدركته قبل إقدامي على هذا العمل فلم أخرج إلى هذه الحرب حتى تجولت بمدن الأندلس وغيرها مما فتحه المسلمون من بلاد الإفرنج (فرنسا) وتعهدت حكامها، وعزلت الضعفاء وأهل المطامع من أمرائها وأبدلتهم برجال من أهل الدراية والحكمة، ليحسنوا سياسة الناس على اختلاف المذاهب ورددت إلى النصارى كنائس كان بعض الأمراء المسلمين قد اغتصبوها منهم، وأعدت ما كان لهم من العهود منذ زمن موسى بن نصير وابنه عبد العزيز، وقد بذلت الجهد في هذا السبيل لعلمي أن الإسلام يأمرنا بذلك، وأن الصحابة الأولين لم يستطيعوا ما استطاعوه من الفتح إلا بما كانوا يتوخونه من الرفق ومعاملة أهل الذمة بالحسنى والعدالة.»
فقالت وهي تصلح نقابها والتفكير ظاهر في عينيها: «قد علمت بكل ما فعلته وما تفعله، وكل ما نويته وما تنويه، ولذلك كنت أتوقع لك الظفر، ولكني رأيت خلاف ما سمعته، فصرت أخشى فشلك.»
فقال وهو يستغرب صراحتها وحصافتها: «وكيف ذلك؟»
قالت: «أظنك تعلم ما أعلمه من هذا القبيل، ويكفي ما شهدته الآن بنفسك ما بين هانئ وبسطام ألم يكد يسفك الدم بينهما من أجل هذه الفتاة؟» وأشارت إلى مريم وكانت جالسة بجانب والدتها تسمع حديثهما باهتمام وشوق، كأنها لم تكن تعرف منه شيئًا.
فلما سمع عبد الرحمن كلام المرأة تشاغل بإصلاح شاربه، وحك عثنونه بين سبابته وإبهامه، وظهر التأثر في عينيه وجبينه، والتفت إلى المرأة وهو يحاذر أن يتنهد وقال: «إن ما رأيته إنما هو من قبيل المنافسة بين أميرين على سبية جميلة، وليس ذلك بالأمر الغريب.»
فضحكت ضحكة مصطنعة، وقالت: «الأمير عبد الرحمن الغافقي لا يجهل أن سبب هذه المنافسة إنما هو فساد نيات الأمراء فيما بينهم لاختلاف أغراضهم في هذه الحملة؛ لأن أكثرهم جاءوا للنهب والسلب وخصوصًا البرابرة ومن على شاكلتهم فهؤلاء لا يفهمون معنى الجهاد أو الفتح، ولا يعرفون ما هو الإسلام؛ لأنهم إنما انتموا إليه رغبة في الغنائم، ومن كان هذا غرضه لا يهمه إذا رضي أهل البلاد أو غضبوا يدلك على ذلك ما رأيته بنفسي في أثناء هذا الفتح اليوم، فإن بعض رجالكم لم يميزوا بين المنازل والكنائس ولا بين الرهبان والعامة، فقد نهبوا كنيسة بوردو وهي من أعظم كنائس الغاليين، فأصبح هؤلاء فضلًا عن نفورهم من المسلمين يعتقدون أن صاحب هذه الكنيسة سينتقم لهم منكم.»
فلم يتمالك عبد الرحمن عن قطع حديثها، فقال: «نهبوا الكنائس؟ نهبوها؟ رغم ما أوصيتهم به من المحافظة عليها وعلى كرامة القسس والرهبان.» ثم صفق وصاح: «يا غلام.» فدخل رجل من غلمانه الذين يقفون ببابه، خفيف اللباس خفيف العضل ممن يقتنونهم للمراسلة ونحوها فابتدره حال دخوله قائلًا: «ادع الأمير هانئًا الساعة.»
فأشار الغلام إشارة الطاعة وخرج، فعجلت المرأة بالكلام قبل خروجه وقالت للأمير: «فاتني أن أطلب إليك الإفراج عن خادمي، فإنه أخذ في جملة الأسرى على شيخوخته وبرغم أنه عربي.»
فنادى عبد الرحمن الغلام فوقف، فقال له: «وقل للأمير هانئ: إن بين الأسرى شيخًا.» والتفت إلى المرأة، وقال: «وما اسمه؟» قالت: «اسمه حسان.» فقال: «قل للأمير إن بين الأسرى شيخًا عربيًّا اسمه حسان فليأتِ به معه.»
ولا تسل عن مريم عندما سمعت اسم هانئ، فإنها أحست بنبضات قلبها تسرع بغتة وكانت جالسة مطرقة فتحركت واعتدلت في مجلسها، ولو انتبه عبد الرحمن لوجهها لرأى فيه احمرارًا يشف عن عاطفة قلبية ظهرت آثارها في بريق عينيها.
قضوا مدة غياب الرسول صامتين وخصوصًا عبد الرحمن، فإنه لبث مطرقًا وهو يلاعب لحيته بين أصابعه ببطء، كأنه يخشى من العجلة أن يضطرب لها حبل أفكاره فتقطعه أو تعترضه، وسكتت المرأة تهيبًا لمنظر عبد الرحمن وبعد قليل سمعوا وقع حوافر جواد، ثم سمعوا صهيله، فعرف عبد الرحمن أنه صهيل جواد هانئ وأن هانئًا قادم، ولم تمضِ هنيهة حتى دخل ذلك الغلام، وقال: «إن الأمير هانئًا بالباب.»
فقال عبد الرحمن: «فليدخل.»
وقبل أن يرجع الرسول بالإذن، أقبل هانئ كأنه يدخل بيته وذلك للدالة التي كانت له على الأمير، وكان لا يزال بثوبه الأحمر وسيفه المرصع وسائر سلاحه، فلما رآه عبد الرحمن داخلا بش له ورحب به ودعاه إلى الجلوس بجانبه، فجلس وهو يحدق في مريم ووالدتها، ولكنه تشاغل بالالتفاف بعباءته وهو يصلح مجلسه أما مريم فإنها أطرقت حياء وعيناها تسترقان النظر إلى هانئ، وترمق كل حركة من حركاته، ودخل في أثر هانئ شيخ طاعن في السن عليه لباس أهل غاليا، وعلى رأسه عمامة صغيرة، وقد شاب شعره مع كثاثة، واسترسلت لحيته كثيفة، وخف عضله وتغضنت جبهته، وتجعد خداه ورقبته حتى ليتوهم الناظر إليه أنه في سن التسعين، وإذا تكلم أو مشى أوهمك لخفة حركته وشدة عارضته أنه فيما دون الستين، فدخل الخيمة وعليه قباء إلى الركبة بعضه مبطن بالجلد، وأما ساقاه فكانتا عاريتين وقد غشاهما شعر كثيف لا يظهر الجلد من تحته، وقد شد بقدميه نعلين من صنع بوردو، ووقف الشيخ بباب الفسطاط، فلما رآه عبد الرحمن أشار إليه أن يجلس فجلس هناك متأدبًا، أما هانئ فلما جلس قال له عبد الرحمن: «أظنك تعبت في هذا اليوم يا هانئ.»
قال هانئ: «ليس في الحرب تعب إذا كانت خاتمتها النصر، كما كانت خاتمة حربنا مع هذه المدينة بعون الله وسيف الأمير عبد الرحمن.»
قال عبد الرحمن: «لم يكن لعبد الرحمن يد في هذا النصر، وإنما تم بك وبرجالك وسائر المسلمين، على أني لم أدعك للبحث في ذلك، وإنما دعوتك لأمر ذي بال فأعرني سمعك.»
فأصاخ هانئ بسمعه، وقال: «قل.»
قال عبد الرحمن: «هل تعلم ما الذي ساعد المسلمين على الفتح والنصر منذ أيام الصحابة حتى اليوم؟»
قال هانئ: «أعلم أن الله نصرهم بالاتحاد والتعاون، وهذا هو الأمر الذي تتوخاه في كل حركة من حركاتنا.»
قال عبد الرحمن: «أنا أعلم ذلك، وأعتقد أنك أكبر ساعد لي في جمع كلمة هذا الجند الضخم وهو مختلف المقاصد والأغراض، وتحتمل معي مضض التوفيق بين نزعاتهم المختلفة وميولهم المتناقضة، ولكن هناك سببًا آخر ساعد السلف الصالحين على الفتح وأيد دولتهم أتعلم ما هو؟»