عبد الرحمن وبسطام
فأطرق هانئ وأعمل فكرته، وعبد الرحمن يتفرس فيه كأنه يستعجل جوابه، فقال هانئ: «الذي أعلمه أن دولة الإسلام تأيدت بالعدل والرفق.»
فقطع عبد الرحمن كلامه، وقال: «ذلك هو بعينه؛ لأن العدل أساس الملك، والرفق بالرعية يدعوهم إلى الطاعة والمحبة وخصوصًا أهل الذمة من النصارى واليهود، وعلى الأخص الرهبان والقسس أصحاب البيع والكنائس، فقد ورد في كتاب الله وفي حديث رسول الله ﷺ النهي عن السعي في أذاهم، ولذلك كان الخلفاء الراشدون إذا أنفذوا جندًا إلى حرب أوصوهم بأهل الذمة خيرًا، ومنعوهم من أذاهم، وأمروهم بالكف عن الكنائس وأصحابها ألا تعلم ذلك؟»
قال هانئ: «نعم أعلمه جيدًا ولطالما تحدثنا فيما قام به بعض الخلفاء وأمراء الأندلس من هذا القبيل، وتعاهدنا على منعه.»
قال عبد الرحمن: «فما معنى هجومكم على كنيسة بوردو في هذا اليوم ونهب آنيتها وإيذاء رهبانها؟»
فظهر الغضب على وجه هانئ مع الدهشة، وأطرق لحظة ثم هز رأسه وهو يقول: «قبح الله بسطامًا ما أطمعه وما أقل طاعته إني نهيته بنفسي عن هذا الأمر — ونحن في أثناء الوقعة — بعد أن رأيت منه ومن رجاله ميلًا إلى النهب في غير تفرقة، وقد علمت بما في كنيسة بوردو من آنية الفضة والذهب، فخشيت أن تسوقه المطامع أو تسوق أحدًا من قبيلته إلى نهبها، فاستوقفته في وسط المعركة وقلت له: «احذر أن يسطو أحد من رجالك على الكنائس أو المعابد أو القسس.» فأجابني بالسكوت فبدا لي في تلك الساعة أنه لا ينوي الإذعان للتحذير، لما نعلمه من طمعه وقسوته و …»
فابتدره عبد الرحمن قائلًا: «أتظن أن تلك فعلة بسطام؟»
قال هانئ: «لا أظن أحدًا سواه يجرؤ على ذلك بعدما كان من تشديدنا في منعه، وقد رأيته مع بعض رجاله وهم يقتسمون صلبانًا من ذهب ومباخر من فضة مما لا يكون في غير الكنائس.»
فصفق عبد الرحمن ونادى غلامه فدخل، فقال: «ادع الأمير بسطامًا.» وبعد خروج الغلام التفت عبد الرحمن إلى هانئ، وقال: «لا تخف من غضبي عليه، فإني سأخاطبه باللين لما أعلمه من فظاظته وغلظته وإلا أفسد الجند علينا.»
فقالت المرأة: «مالكم ولهذا النصير الخطير ما كان أغناكم عنه وعن قبيلته.»
فتنهد عبد الرحمن وقال: «لو شئنا أن نستبعد من جندنا أمثال هؤلاء الغلاظ لاقتضى أن نجرده من أشد رجاله وأكثرهم عددًا؛ لأن في جملة رايات هذا الجند قبائل من البربر وجماعات من الصقالبة والجرامقة والجراجمة والأقباط والأنباط وغيرهم، وفيهم من لا يزال على اليهودية أو النصرانية أو الوثنية أو المجوسية وإنما يتظاهرون بالإسلام — والبربر من أشجع الأمم لا يهابون الموت ولا يخافون العدد — والحق يقال إنهم هم الذين فتحوا لنا إسبانيا وسلموها إلينا، ولو أردنا الاستغناء عنهم لامتنع علينا هذا الفتح؛ لأن العرب لا يزالون إلى اليوم قليلي العدد بالنسبة إلى مثل هذا المشروع العظيم، فاستخدام البربر في هذه الحروب يفيدنا كثيرًا، وكل ما يطلب منا أن نحسن السياسة في معاملتهم لئلا نغضبهم، وهم إنما يرضيهم الكسب من الغنائم ونحوها، وهذا أمر ميسور لهم؛ لأننا كثيرًا ما نتنازل لهم عن الغنيمة لنطعمهم في الجهاد لمصلحة المسلمين، وإن لم يكونوا كلهم مسلمين مخلصين.»
فأعجبت المرأة بتفكير عبد الرحمن وسعة صدره، وقالت له: «إن جندًا أنت قائده جدير بأن يعود ظافرًا منصورًا.»
فلما سمع ذلك الإطناب، مال بيمناه إلى هانئ وألقى يده على كتفه، وقال: «هذا هو يدنا اليمنى؛ لأنه قائد فرساننا.» فخجل هانئ لهذا الإطراء وأراد أن يعتذر وإذا بالرسول قد دخل وهو يقول: «الأمير بسطام بالباب.»
فقال عبد الرحمن: «فليدخل.»
فدخل بسطام وعباءته مطلقة من الأمام، وسيفه يجر وراءه، وعمامته مع صغرها منحرفة من جانب رأسه إلى الأذن، وفي يده عنقود من العنب كان يأكله في أثناء الطريق فلما رأى نفسه في حضرة الأمير تراجع ورمى تلك البقية، وعاد وفي مشيته تيه وإعجاب، ولكنه مع ذلك لم يكن يستطيع مخاطبة عبد الرحمن إلا بالاحترام؛ لأنه لم يكن يسمع منه إلا كل ما يطيب خاطره ويدعوه إلى احترامه لما قدمناه من حسن سياسة عبد الرحمن ورقة جانبه وربما توهم بعضهم أن الرياسة إنما يتأيد نفوذ صاحبها بالغلظة والكبرياء وشدة الوطأة، ولكن ذلك من الأوهام الباطلة؛ لأن الرئيس الشديد الوطأة قد يملك ألسنة مرءوسيه وأما الوديع الرقيق الجانب فإنه يملك قلوبهم ورقابهم، فلما دخل بسطام حيًّا، فبش له عبد الرحمن ودعاه للجلوس، فجلس وهو يجيل نظره في أطراف الخيمة، فرأى مريم وهانئًا فتوهم لأول وهلة أنه دُعي لأمر يتعلق بهما، ثم سمع عبد الرحمن يخاطبه قائلًا: «دعوناك يا أمير لنسألك عن أمر يهمك كما يهمنا؛ لأن المصلحة واحدة، وهي رفع منار الإسلام وتأييد كلمة الله.»
فانشرح قلب بسطام لهذا الإطناب؛ لأن العرب لم تكن تعامل البربر إلا معاملة الموالي كما تقدم، فلما سمع بسطام ذلك الكلام قال: «يأمر الأمير بما شاء، وله ما يرضيه مني فإني أطوع له من بنانه.»
قال عبد الرحمن: «بورك فيك، ونفع الله المسلمين بسيفك، أما الأمر الذي استقدمناك لأجله، فهو أن بعض نصارى هذه المدينة يشكون مما أصاب بيعتهم من النهب، وهم كما لا يخفى عليك أهل كتاب قد أوصانا الله برعايتهم وبحرمة كنائسهم وبيعهم، وخصوصًا أننا في أحوال تقضي علينا بمحاسنة أهل هذه البلاد حتى يهون علينا الفتح، ونحن سائرون إلى بلاد أمنع ورجال أشد من أهل هذا البلد، فإذا اعتقدوا فينا الرفق والعدل ساعدونا، ولذلك كنت كثيرًا ما أوصيكم بالإغضاء عن أماكن العبادة على يد أخينا الأمير هانئ، فإذا كنت على بينة من أمر كنيسة بوردو ونهبها أرجو أن تسعى في رد ما نهب من آنيتها وأدواتها.»