إديث شتاين … نحو فينومينولوجية لاهوتية
تتلمذت على يد الفينومينولوجي الشهير، إدموند هوسرل، الذي عيَّنها مساعدة له سنة ١٩١٧، بعد وفاة معاونه الأول الدكتور ريناخ. التحقت إديث بجامعة فريبورغ سنة ١٩١٣، وأعدت فيها أطروحة الدكتوراه في الفلسفة، دراسة فينومينولوجية، تحت عنوان: «تسرُّب الانفعالات والعواطِف»، حاولت من خلالها تجاوز مقاربة علم النفس، نحو علم يخص الظواهر الإنسانية؛ للكشف عن عمق الباطن الفردي، وما يفعل فيه من إحساسات تترجم في حدوسٍ عقلية وانفعالية.
كان لفقدان إديث لأبيها ولثلاثة من إخوتها (وهي واحدة من ضمن عشرة إخوة)، وهي في سن الثانية من عمرها، أثرٌ بلِيغ في مسارها اليومي. وقد تكفَّلت أمها بإعالتها هي وإخوتها، غير أن إديث شتاين ستشقُّ لنفسها طريقًا آخر غير ما ورثته من التقاليد اليهودية، وهذا ما عبرت عنه في كتابها «قصة حياة يهودية»، الذي يعد سيرة ذاتية غير مكتملة، حكت فيها عن طفولتها وانفعالاتها وعنفوانها، وعن علاقاتها في مراحل مختلفة من حياتها. لم تسعفها الظروف الحياتية لتصير فيلسوفة معروفة في الأوساط الأكاديمية، بالنظر إلى وضعها بصفتها يهوديةً مهددةً في حياتها، بعد صعود النازية إلى الحكم في الثلاثينيات. وقد كان حدسها صحيحًا؛ حيث أُحرِقت بمعية أختها الطبيبة روز (التي ساعدتها على التطبيب في الحرب العالمية الأولى تضامنًا مع زملائها في الدراسة الذين تطوَّعوا للقتال دفاعًا عن الوطن)، في محرقة أشفيتز الغازية سنة ١٩٤٢، على الرغم من انتمائها إلى الطائفة المسيحية، فيما بعد، واعتكافها على تربية الراهبات في الكرملية الهولندية (إيخت) لسنوات عدة. مع العلم بأن هيدغر رشحها لمنصب جامعي ودعمها، إلا أن النازيين وقفوا في وجهها بسبب أصلها اليهودي.
أصدرت إديث في حياتها كتبًا فلسفية ومعرفية عدة ركزت على قضية المرأة، والحقيقة والتربية والوضع الإنساني. في كتابها «العلم والإيمان»، بَنَت حوارًا أخاذًا بين هوسرل وتوما الأكويني. وفي «بناء الكائن البشري»، نجد بحثًا في أصل الجنس البشري وتطوِّره وأعراقه ومعتقداته، وهو البحث الذي عُرِف، فيما بعد، ﺑ «الإناسة اللاهوتية». أما كتابها «جوهر الحياة»، أو «الحياة في شموليتها»، فتعالج فيه قضايا تربوية عدة: تربية الروح والنفس، وما تقتضيه من قوًى روحية من شأنها أن تجعل من الحياة بكاملها مشروعًا يندفع نحو الحقيقة، لتعرج فيه على أهمية الحضور النسوي في التعليم. هذا ناهيك بكتاب «فن التربية» و«في الشخص». وفي كتابها عن «قدر المرأة»، كانت إديث سبَّاقة إلى الحديث عن المرأة ودورها في المجتمع، حيث تتساءل: هل المرأة من طبيعة أنثوية؟ ما الهدف من تعليم المرأة؟ محاولة أن تعالج قضايا المرأة من باب أخلاقية المهن النسائية، أو فيما سمته «تكامل المرأة في جسد المسيح السرِّي»؛ حيث تدعو الرجل والمرأة معًا، ليكونا ضمن نظام الطبيعة ونظام النِّعمة. ولا شك في أنها متأثرة كثيرًا بوضعية أمها التي عالت إخوتها وبالسيدة آن رينر.
كتبت في مجال اللاهوت: «صلاة الكنيسة وسرُّ الميلاد»، و«علم الصليب»، وترجمت كتاب توما الأكويني «في الحقيقة».
خالطت شتاين كبار عمالقة الفكر الفلسفي الألماني طوال سنوات خلال تحضيرها أطروحتها الجامعية، وخلال اشتغالها محاضِرة فيما بين ١٩٢٣ و١٩٣٣. وانتقلت إلى المعاهد الكاثوليكية بعد أن أُعفيت من الأستاذية؛ لتعيش حياة الرهبنة، مهرولة إلى اللاهوت لقراءة المفكرين المسيحيين، لا سيما القديس توما الأكويني. وقد كان لهذا التغير المفاجئ وقْع على أصدقائها اليهود، بحيث اتهمت بالهروب من جحيم النازية، الذي لم تسلم منه. وصاحبت كلًّا من أدولف رينر، الذي يُعدُّ الذراع اليمنى لهوسرل، وجون هيرينج، وهانز ليبس، وماكس شيللر (في الصليب الأحمر الألماني)، وهيدغر، وانخرطت في حلقة الفينومينولوجيا. يمكن تقسيم أعمال الفيلسوفة الراهبة شتاين — بحسب المتخصص في فلسفتها اللاهوتية، جون فرنسوا لافين — إلى ثلاثة محاور:
يتعلق الأول بتحليل الشخص البشري كما يعيش نوازعه وانفعالاته الداخلية، منطلقًا من سؤال: من أكون؟ إلى أي نوع من الموضوعات ينتمي الأنا؟ ما الروابط القائمة في تشكُّلنا: الجسد، الملكات العقلية، الروح، الحساسية، الأحاسيس؟ وذلك للبحث عن تصور شمولي للكائن البشري.
أما الثاني، فيخص التربية؛ فلأجل تربية الكائن، يجب التوجه إليه كما هو؛ كما يحس داخليًّا ووفق معرفته الباطنية. وهو ما جسدته، فعليًّا، في الكرملية، حيث عمَّقت بحثها في الظواهر الإنسانية.
ويتعلق المحور الثالث، بمجال الميتافيزيقا، حيث اطلعت على توما الأكويني؛ إيمانًا منها بأن البحث عن الحقيقة هو أسمى ما يمكن أن يقودها إلى فهم ما يحيط بها من ظواهر إنسانية. ولا شك في أن لكتاب هيدغر، الكينونة والزمن، (صدر سنة ١٩٢٩)، أثرًا بالغًا على محاضراتها في تلك الفترة، التي نجد فيها تأملات فلسفية عميقة مشحونة بعاطفة جيَّاشة مفعمة بالأمل.