الباحثة سيلا بن حبيب وتأملات في الربيع العربي
(١) تقديم للترجمة: موقف سيلا بن حبيب من الربيع العربي
ما هو موقف سيلا بن حبيب من الربيع العربي؟ كيف نظرتْ إلى انتفاضات الربيع العربي؟ هل كانت تعتقد أنَّ تمرُّد الشباب في مصر وتونس والبحرين وليبيا يمثِّل موجةً جديدةً من النضالات؟ ما موقفها من الإخوان المسلمين؟ وهل كانت متخوِّفةً من صعود الأصولية الإسلامية إلى هرم السلطة؟ ما هي قراءتها للحركات الإسلامية التي تجتاح العالم العربي والإسلامي على حدٍّ سواء؟ هل كانت تقف إلى جانب تخوُّفات الغرب من الحركات الجماهيرية المتفجرة؟
خصَّصت سيلا بن حبيب لثورات الربيع العربي مقالًا تحليليًّا لانتفاضات مصر وتونس وللموجة التي اجتاحت البلدان العربية بمجرد الانتصارات الأولى للثوار الشباب، وتحديدًا يوم ٢٤ فبراير ٢٠١١، وترجمها بعد أسبوعين شارل جيرار إلى الفرنسية، وهو مقالٌ جديرٌ بالاهتمام؛ فهو أولًا: مقالٌ يُنْصِفُ الشباب المتمرِّد بهذه البلدان، وثانيًا: هو مقالٌ يعيد النظر في الموقف الغربي وتحديدًا موقف النخب والمعلِّقين والمتخصِّصين في شئون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، أي أولئك الذين يكرِّسون العداء لهذه الشعوب بدعوى أنَّ موجة التمرُّد تلك تحمل نسيم الحركات الإسلاموية بكل أطيافها، في سبيل توجيه الرأي العام الغربي نحو اتخاذ مسافة من هذه التمردات، وثالثًا: فالمقال ثاقب النظر، يضع الأصبع على الجراح، ويحاول أن يضع الربيع العربي في سياقه التاريخي والسياسي.
وجوابًا عن التساؤلات المطروحة في هذه المقدمة، نقدِّم هنا ترجمةً للنص الإنكليزي إلى اللغة العربية.
(٢) النص المترجم — الربيع العربي: الدين والثورة والفضاء العمومي١
(الحرية عظيمة، مغامرةٌ كبيرة، ولكنَّها لا تخلو من مخاطر … فالمخاطر مفتوحة على اللامتوقع).
فتحي بن الحاج يحيى، كاتب تونسي ومعتقل سياسي سابق، نيويورك تايمز، ٢١ فبراير (شباط) ٢٠١١.
لقد أسرت الحشودُ الشجاعة في العالم العربي من تونس إلى ميدان التحرير، في اليمن والبحرين، وحاليًّا ببنغازي وطرابلس؛ قلوبَنا وفكرَنا. لم ينتهِ بعد شتاء الاستياء والسَّخط في أمريكا وأوروبا، ولم يقتنص الربيع العربي الرياح الباردة التي أتت بها هجمات السياسيين المحافظين في الولايات المتحدة ضدَّ الفقراء، كما يقتنص استمرار صعود المحافظين من القوميين الجدد في ألمانيا وفي فرنسا، حيث تفرض هذه الدول سياسات تقشُّف على كل أُجَرَاء الاتحاد الأوروبي.
ورغم ذلك فبذورٌ جديدةٌ من المقاومة تنامت في هذه التربة المجمَّدة، وحتى في بعض الولايات الأمريكية؛ ففي ماديسون في ولاية ويسكنسون يناضل الأُجراء كي لا يفقدوا حقوقهم الجماعية في التفاوض، وقد دخلت مقاومتهم في الأسبوع الثاني، كما تجري نفس الجهود في إنديانا وأوهايو وفي ولاياتٍ أخرى، يحمل متظاهرٌ مصريٌّ لافتةً كُتب عليها: «مصر تدعم عمال ويسكنسون: عالَم واحد، نفس المعاناة». وأحد مواطني ولاية ويسكنسون يجيب: «إننا نحبكم. شكرًا على دعمكم وهنيئًا لكم نصركم!»
يناضل المتظاهرون في ويسكنسون والثوار التونسيون والمصريون، بطبيعة الحال، لأهدافٍ مختلفة؛ في المقام الأول ضدَّ إذلال المواطنين وتحويلهم إلى أفراد خصوصيين منصاعين ويائسين من ويلات الرأسمالية المالية الأمريكية والعالمية خلال العقدين الأخيرين، كما يناضل الثوار العرب، من أجل الحريات الديمقراطية، ومن أجل فضاءٍ عموميٍّ مفتوح، ومن أجل الانخراط في العالم المعاصر بعد عقودٍ من العزلة والكذب والخداع. ومع ذلك وفي الحالتين، تبزغ الآمال في الانتقال؛ فالأنظمة السياسية والاقتصادية صارت هشَّة، وقابلة للتغيير!
نعلم أنَّ ربيع الثورات، ستعقبه غضبات الصيف وانهيار ثلوج الشتاء؛ فعلى الأقل منذ تحليل هيجل لتمرُّد الجماهير الفرنسية في كتابه «فينومينولوجيا الروح» عام ١٨٠٧، بات شائعًا الاعتقاد بأنَّ الثورة ستلتهم أبناءها. وهكذا أعلنت هيلاري كلينتون تحذيرات منذ الأيام الأولى من الانتفاضة المصرية، كما عبَّر بعض المحلِّلين عن غياب ثقتهم في قدرة الشعوب العربية على ممارسة الديمقراطية، مبتهجين حاليًّا عند رؤيتهم للعلامات الأولى للصراع بين المجموعات الدينية والعلمانية في مصر وتونس.
- (١)
الأنظمة الاستبدادية الفاسدة التي ترسيها الانقلابات العسكرية: كما هو الحال في مصر وليبيا، أو السلالات الملكية التي تشتري ولاءها بثروتها، كما هو الحال في المملكة العربية السعودية والمملكة الأردنية الهاشمية.
- (٢)
«الأصولية الإسلامية»: التي تُخفي عمدًا الخلافات التاريخية والسياسية بين المجموعات المختلفة، في ظلِّ الأنظمة أو فيما بينها.
- (٣)
إرهاب «القاعدة»: الذي يوضع في نفس سلَّة «الأصولية الإسلامية».
تعود بطبيعة الحال أصول «القاعدة» تاريخيًّا إلى المملكة العربية السعودية، حيث وُلِدَ أسامة بن لادن، وعدد كبير من مفكري الإخوان المسلمين الموالين للقاعدة بمصر، كسيد قطب مثلًا؛ فمن المعروف أنَّ الزعيم الثاني للقاعدة هو الطبيب المصري أيمن الظواهري.
لا أحد من المعلِّقين والمتتبِّعين تَرقَّبَ بروز حركة المقاومة الشعبية الديمقراطية، ولا أحد تحدَّث في عمقها بالمعنى السياسي؛ فمع أن هذه الحركة قد تبدو أحيانًا على شكل تقوى/ورع، ولكنَّها ليست بحركةٍ متعصِّبة، وهو تمييزٌ هام يتم تجاهله باستمرار. فكما تلقَّى أتباع مارتين لوثر تربيتهم في كنائس السود بأمريكا الجنوبية، وأطلقوا قوتهم الروحية في هذه المجتمعات، فإنَّ حشود تونس ومصر وخارجهما، تربَّوا على التقاليد الإسلامية من قبيل الشهادة؛ فأن تصير شهيدًا فهذا قَدَرٌ إلهي! وليس هناك من تناقض ضروري بين الإيمان الديني لعددٍ كبيرٍ من المتظاهرين في الحركات الثائرة في تونس ومصر وبين تطلُّعاتها الحديثة!
كشفت وسائل الإعلام العابرة للحدود الأكاذيب التي تبثُّها وسائل الإعلام الرَّسمية لسنوات، وقد دار الحديث كثيرًا عن المساهمة الكبيرة التي لعبتها وسائل الإعلام الجديدة مثل «فيسبوك» و«تويتر» في هذه الثورات. وهذا صحيحٌ بالتأكيد؛ فوائل غنيم الذي يدير «جوجل» بمصر، يمثِّل حالةً خاصةً في هذا الانفتاح العالمي حينما صرَّح: (سوف أصافح مارك زوكربورج حينما ألتقي به!) وكان يعلم دون مواربة أنَّ مارك زوكربورج يهودي! وماذا بعد؟
ما هي إذن الإمكانات المؤسسية: ماليزيا، أم تركيا، أم إيران؟ لا أحد على ما يبدو قادرٌ على تقليد النموذج الإيراني؛ ونظرًا للاختلافات بين دور اللاهوتي/السياسي المذهبي الشيعي أو السني، فلا يمكن أن تتبع مصر أو تونس النموذج الإيراني. ويمكن أن تشكل ماليزيا مجتمعًا مسلمًا استبداديًّا ومنغلقًا، حيث يتم التحكم في المرأة والفضاء العمومي.
أما تركيا فمجتمعٌ متعدِّدٌ ويتبنَّى ديمقراطيةً حيةً من طرف أحزابٍ سياسيةٍ متعددة، وغالبيةٍ مسلمةٍ، فضلًا عن تاريخها الخاص من استبداد الدولة؛ فالروابط التاريخية بين تركيا وبلدان من قبيل تونس ومصر وليبيا أيضًا، تعود الى الحقبة العثمانية، حيث نجد أسماء النُّخب والمدن التركية حاضرةً بعمق وعلى نطاقٍ واسع. ولقد أشاد الشباب المصري كثيرًا بالنموذج التركي.
من الممكن جدًّا أن يُفاجَئ الشبَّان الثائرون العالم بفضل براعتهم وانضباطهم ومثابرتهم وشجاعتهم، ويمكن في المستقبل أن نستفيد من دروسهم حول الدين والفضاء العمومي، الديمقراطية والإيمان، وكذلك حول دور الجيش.
أخيرًا، رغم تشاؤمه من الثورة الفرنسية، لم يتوانَ هيجل في رفع كأسه للاحتفال بثوار فرنسا كل ١٤ يوليو (تموز)، يوم اقتحام سجن الباستيل. وها نحن نحذو حذوه برفع كأس على شرف الشباب الثائر كل ١١ فبراير (شباط)، مبروك، وهنيئًا.
(٣) تركيا والإسلام وساركوزي وأوروبا
بقلم سيلا بن حبيب.
(٣-١) توطئة
تتميز تحليلات الفيلسوفة سيلا بن حبيب بمواقفها النقدية الجريئة من القضايا المعاصرة التي تهم ملايين الشعوب، وباعتبارها من أصول تركية فلم تتوانَ عن تحليل الوضع العام بتركيا، محاوِلة تقديم عناصر حلول لمجمل المشاكل التي تهم الشعب التركي. فرغم عيشها في أمريكا كواحدة من أبرز فلاسفة العصر فإن تركيا بلدها الأصل تظل حاضرة في قلبها دومًا. هكذا قدمت رأيها كاشتراكيةٍ ديمقراطية تؤمن بإمكانية التغيير والإصلاح في بلدها، عكس ما تروج له بعض الأقلام النسوية المسخَّرة في خدمة السياسة الخارجية الأمريكية. ولا ينبغي أن يفاجئنا موقفها من حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا، حيث أكدت أن تجربة هذا الحزب جديدة، ويمكنه أن يقدِّم نموذجًا جديدًا، مستفيدًا من التركيبة التعددية للمجتمع التركي. ورغم ذلك تتوجس بالحذر الكبير تجاه هذا الحزب، الذي ينبغي في نظرها مراقبته عن قربٍ، وتقديرُ المسافات بُعدًا عنه؛ فهي لا تؤمن أن الحزب الحاكم قادر على إرساء نظامٍ أثوقراطي في تركيا؛ لأن ذلك غير ممكن، ولكنها لا تستبعد أن قاعدة هذا الحزب تؤمن بإمكانية قيام الدولة الدينية. وتحاجُّ على ذلك بكون الاشتراكيين الديمقراطيين لا يمكنهم بحكم تاريخهم مع القمع والاضطهاد الذي مارسه الجيش في حقهم، لا يمكن أن يقبلوا عودة الجيش والمؤسسة العسكرية إلى معترك السياسة.
(٣-٢) نص الحوار
ومن المرجَّح أن بعض أعضاء هذا الحزب يزرعون هذا النوع من الوهم والأهداف، ولكن هذه المخاوف تجاه كول غير مبرَّرة. ومنذ سنواتٍ عديدة تكثف الصراع بين علمانيي الحزب الديمقراطي الشعبي CHP وإسلامويي حزب العدالة والتنمية. إنها توترات خيمت على قضية انتخابات رئيس الجمهورية، القمة الرمزية للدولة. ومن نواحٍ عديدة، أجِدُ أنه من الإيجابي مجابهة هذه القضية علنًا: إلى أي حدٍّ يمكن للمشروع الإسلامي أن يذهب بعيدًا في تركيا؟
يمثل هذا النوع من الإسلام خليطًا من المذاهب الدينية والتسيير السياسي. تقرب أتاتورك من المؤسسات التعليمية غير العلمانية. بحيث كانت كل تلك المؤسسات — أو على الأقل معظمها — في ظل النظام الإمبراطوري في قبضة التنظيمات الدينية، كما كانت هناك خلايا تنظيمات سرية داخل أجهزة الدولة.
ويجب التمييز بين هذا النوع من دين الدولة وبين الدين التقليدي لعامة الناس. فالفلاحون على سبيل المثال لهم أشكالهم الخاصة في التدين، وما كان يواجه أتاتورك هو هذا الزواج بين الدين والإمبراطورية. أما ما يحدث اليوم فهو عودة/يقظة الإسلام عالميًّا، التي ساهمت فيها آثار العولمة وأزمة الدولة-الأمة.
وما يثير النقاش أكثر هو مسألة صورة المرأة في الفضاء العمومي؛ حيث الجدل هو حجاب المرأة، الذي يُعتبر موضوعًا هامًّا. كما أن هناك نقاشًا حول تكوين رجال الدين ومسئولية هذا التكوين؛ ففي تركيا يوجد وزير للشئون الدينية، يُعتبر مسئولًا عن المدارس التي تُكوِّن رجال الدين المسلمين. وهكذا يمكننا القول بمعنًى آخر إن الدين لا ينفصل عن الدولة إذا كانت تركيا تتبع النموذج العلماني الفرنسي، أو على الأقل يمكن القول إن الدين الإسلامي لا ينفصل عن الدولة.
للأقليات الدينية — اليهود والنصارى — مؤسساتهم التعليمية الخاصة، أما المسلمون الذين يمثلون الأغلبية فلديهم النظام التعليمي الرسمي. في أمريكا أو في أوروبا تجد قضايا الإجهاض والأبحاث حول الخلايا الجذعية مكانَها في الفضاء العمومي. وفي فرنسا بطبيعة الحال، نجد جدلًا دائرًا حول الحجاب الإسلامي.
إذا كان موضوع ارتداء الحجاب في بعض الأماكن العامة قد أثار النقاش في تركيا، فهناك قضايا أخرى لا تثير المشاكل قدر ما يثيرها التديُّن. وضمن هذا المعنى، فمن الصعوبة لكاثوليكيٍّ أو بروتستانتي أن يفهم أن الإسلام لا يقدِّم دومًا حلولًا أخلاقية أو سياسية محددة لمواجهة هذه القضايا أو تلك المثيرة للجدل.
لا يوجد نقاشٌ إسلامي بخصوص الأبحاث حول الخلايا الجذعية.
لقد كان هذا التوجه السائد في سنوات الستينيات، أما اليوم فنحن نشاهد ظهور طبقةٍ متوسطة جديدة أصلية من أصول شعبية في الأناضول. ولكن من هم هؤلاء الأشخاص؟ مالكو محلات السيارات على سبيل المثال، أو مديرو الأسواق الممتازة، مالكو الفنادق ومستثمرون في السياحة … إنها الطبقة البرجوازية الصغيرة التي تشكل قاعدة حزب العدالة والتنمية (AKP). لا يتعلق الأمر ببرجوازيةٍ صناعية أو مالية، وإنما بفئةٍ تجارية (ميركانتيلية) تحمل قيم طبقةٍ متوسطةٍ معادية لليسار، ومناهضة جدًّا للشيوعية، أشخاص يؤمنون بالملكية الخاصة، تملُّك بقعةٍ أرضية ومنزلٍ وسيارة. كانت هذه البرجوازية الجديدة الأناضولية إلى حدود الآن مُبعدة تمامًا من السياسة التركية وتميل إلى تفويض تمثيليتها للنخب، أي إلى البرجوازية الكبيرة الصناعية بإسطنبول أو إلى الجيش. إلا أنها اليوم صارت تمتلك صوتًا سياسيًّا. فمع التطور العام لتركيا رفضت أن تكون مجرد ديكورٍ خلفي وشرعت في الاندماج الاقتصادي. إنها أساس وقاعدة حزب العدالة والتنمية.
أعلنت المناضلة النسوية الهولندية أيان هيرسي علي Ayaan Hirsi Ali (صومالية الأصل ومهاجرة اليوم بأمريكا) المناهِضة للإسلامويين في تعليق حول الأزمة التركية نشرته بجريدة لوس أنجلس تايمز Los Angeles Times: «يستغل أنصار الإسلام السياسي من مثل الوزير الأول رجب طيب أردوغان Recep Tayyip Erdogan ووزير الشئون الخارجية عبد الله كول وحزبه (حزب العدالة والتنمية)، يستغلون الوسائل الديمقراطية لتقويضها. فبعد فشلهم في ثورتهم الإسلامية ١٩٩٧ حيث قام الجيش ﺑ «انقلاب قانوني» putsch légal ضد الإسلاميين المترشحين، فَهِم أردوغان وحزبه أن نزعةً إصلاحية متطورة يمكن أن تخدم أهدافهم على المدى الطويل. لقد كانوا بالتأكيد على وعي بأن أسلمة كاملةً لتركيا ستتم من خلال السيطرة على الجيش وعلى المحكمة الدستورية.
في الحالة التركية لا تعرف أيان هيرسي ببساطة عماذا تتحدث؟ ولا يمكن أخذ أية ديمقراطية على محمل الجد. ففي المقام الأول، لا يوجد أي خطر في تركيا لصعود الأوثوقراطية الإسلامية. وأستطيع أن أؤكد لكم أنه ستكون هناك حرب أهلية قبل صعود الأوثوقراطية. وفي جميع الحالات، لا أظن أن حزب العدالة والتنمية يأمل في إرساء الدولة الدينية. وهم الآن في الطريق نحو تعزيز تجربةٍ جديدة غير مسبوقة، ومما لا شك فيه أنه لم يترقب أي اشتراكي ديمقراطي مثلي — بحذر كبير — دعمَ ومراقبة تجربةِ حزبٍ مثل حزب العدالة والتنمية، إلا أننا مدعوُّون إلى مراقبتها بحذرٍ كبير؛ لأن حزب العدالة والتنمية يمثل شكلًا من تعددية المجتمع المدني الذي تحتاج إليه تركيا. وبالتالي، لست خائفة من الثيولوجية الإسلامية. وأعتقد أنه لا الشعب التركي ولا حزب العدالة والتنمية يأملان في إقامة الثيولوجيا الإسلامية. كما لا أنكر أن أعضاءً من هذا الحزب يحلمون بدولةٍ من هذا النوع، ولكنني لا أظن أن تحقيقها ممكن. منذ خمسين سنة والجيش في تركيا فاعلٌ سياسي، وأن أي شخصٍ اشتراكيٍّ ديمقراطي لا يرغب في عودة الجيش إلى الحكم، إلا أذا أنكرنا أو نسينا القمع الذي قام به الجيش التركي؛ فالجيش في تركيا مسئول عن انقلابَيْن: انقلاب ١٩٧١، وانقلاب ١٩٨٠. وقد قمع اليسارَ واضطهده ومهَّد الطريق لليمين، كما حاول القضاء على الحركة النقابية.
خطاب أيان علي هو خطابٌ صِدَامي يستند على النظر إلى الإسلام باعتباره في مجموعه أرثوذوكسية متجانسة ترفض إمكانية إنجاز أي إصلاح أو تغيير، خطاب يروِّج من الخارج لرؤيةٍ ديمقراطيةٍ ليبراليةٍ مثالية لا تقبل النقد، وكأنها ليس لديها مشاكلها الخاصة.
قررتْ أيان علي العمل لصالح معهد الشركة الأمريكية، موالية لواشنطون، وتتدخل سياسيًّا بواسطتها. وأنا أحترم معاناتها كفردٍ وكامرأة، ولكن من المؤسف أنها اختارت هذا الطريق للتدخل في هذه القضايا التي تهمُّنا جيدًا نحن. وأتمنى أن تغيِّر آراءها بعد سنوات من العيش في أمريكا.
يوظف ساركوزي تركيا كاستعارة للتعبير عن مشاكله الحقيقية مع المهاجرين المسلمين بفرنسا — الجزائريين والتونسيين والمغاربة — لتبرير خطابه حول العلاقات بين أوروبا والإسلام.
هناك على نطاق واسع ما يمكن انتقاده، مثل اغتيال الصحفي الأرميني هرانت دينك Hrant Dink واضطهاد الروائي أورهان باموك Orhan Pamuk وواقع أن هناك اختراقًا للقضاء التركي من طرف عناصر من اليمين المتطرف الذين يوجهون القانون وفق تصورهم الخاص للدولة.
إذن هناك الكثير مما يمكن انتقاده في تركيا، ولكن ليس هذا ما يمكن انتقاده في تركيا، رغم أن هذه المشاكل تتوافق ومعايير كوبنهاغن؛ لأنه لو أرادت تركيا حقًّا الدخول الى الاتحاد الأوروبي، فعليها أن تقوم بعملٍ جادٍّ في إصلاح القضاء. فلنأخذ المادة ٣٠١ من القانون الجنائي مثلًا، التي تعتبر أن إهانة تركيا، أو الهوية الوطنية التركية جريمة. فهذه المادة يجب أن تختفي … ساركوزي لا يفعل شيئًا، وكل ما يحاول فعله هو زرع الخوف بطريقته الخاصة؛ فهو محرِّض.
يبدو لي بديهيًّا أن المشروع الأوروبي من وجهة نظر طوباوية — وجهة نظر تروق لي كمفكرةٍ سياسية وأحيانًا كفيلسوفةٍ سياسية — يمكن أن يُنظر إليه كنموذجٍ فيدرالي كوسموبوليتي/كوني، كبنية حكمٍ فيدرالية ناشئة. ومن وجهة النظر هاته، يمكن النظر إلى الاتحاد الأوروبي كنواةٍ يمكن أن تتبعه دولٌ أخرى أو تقلده. يتعلق الأمر بما في الكلمة من معنى، بمشروع طوباوي، ذي طموحٍ مثالي … وسيكون موضوع تفكيرنا. ولكن على المستوى المؤسساتي والإداري، فإن لامتداد الاتحاد الأوروبي حدودًا مرتبطة بسلسلة من المعايير. وأنا مقتنعة من وجهة نظر تاريخية واقتصادية وبنيوية أن تركيا استجابت لهذه المعايير الأوروبية ces critères d’européanité منذ زمنٍ طويل وبشكلٍ جوهري أكثر من المغرب على سبيل المثال.
ولهذا السبب اقترحت أنجيلا ميركل نموذج «علاقة خاصة» مع تركيا؛ لأن الجميع يدرك أن علاقتها مع الاتحاد الأوروبي تختلف عن علاقاتها مع دولٍ أخرى خارج الاتحاد الأوروبي. وأقترح أن يكون النقاش حول هذه المسألة مبنيًّا على معايير كوبنهاغن، وسنذهب بعيدًا على هذا الطريق. السؤال الآخر المتعلق بهل يمكن أن تقدم تركيا نموذجًا؟
كانت تركيا فيما مضى، بعد إعلان الجمهورية سنة ١٩٢٣، نموذجًا يُحتذَى في بلدان مثل تونس. فالحبيب بورقيبة كان بمثابة كمال أتاتورك، كما يجب ملاحظة أن تركيا كانت نموذجًا لإيران، إلى حدود لحظة انقلاب الاستخبارات المركزية الأمريكية على الوطني مصدق، وكذلك الأمر بالنسبة لمصر. ويبدو لي أن ما يحدث اليوم هو أن النموذج العلماني للتنمية الذي أَرْسته نُخَب الدولة مثل جمال عبد الناصر بمصر وأتاتورك بتركيا استنفد دوره؛ فهو نموذج لم يعد صالحًا. وكان مرتبطًا بطبيعة الحال بانهيار اشتراكية الدولة في العالم العربي، انهيار الناصرية على سبيل المثال.
يفرض تفسير هذا الفشل بدون شك تنمية طويلة، إلا أن صعود الإسلام في العالم العربي يمكنه بدون شك تفسير الإحباط المتولِّد كما يجب أيضًا أن نتذكر الهزيمة العسكرية عام ١٩٦٧ التي ساهمت إلى حدٍّ كبير في فشل ذلك النموذج التنموي. إنه مشكل التنمية الاقتصادية والاجتماعية؛ فحالة الأردن وحدها دون شكٍّ مختلفة، وفيما يتعلق بمصر، أرى بعض العراقيل وعدم قدرة على التقدم. تركيا هامة جدًّا؛ لأن لديها اقتصادًا ديناميًّا، وبلدٌ شابٌّ جدًّا. وإذا أرادت أن تبني نموذجًا، فأنا على يقين أنها ستكون كذلك على مستوى التنمية الاقتصادية. ففي الحقيقة إن اقتصاد تركيا اليوم متقدم جدًّا بالمقارنة مع اقتصاد مصر. وكل هذه الجوانب يجب أخذها بعين الاعتبار، وأنا متأكدة من أن عددًا من البلدان يتابعون تركيا عن قرب، وكذلك الأمر بالنسبة لسوريا، فلتركيا حدود واسعة جدًّا مع سوريا، وهذه مسألة نادرًا ما نتحدث عنها. ولن يفاجئني كثيرًا تقوية العلاقات مع سوريا مستقبلًا، وقد أعلن الأسد عن بذل مجهودات تغيير وانفتاح، وهذا يبدو لي معقولًا جدًّا.
Seyla Benhabib: La Turquie, l’islam, Sarkozy et l’Europe, Publié sur le site de Mouvements le 7 septembre 2007.
(٤) أي حل لإسرائيل؟٤
بقلم سيلا بن حبيب، الجمعة ١٠ أبريل ٢٠٠٩.
فقدت إسرائيل رؤيتها السياسية وقوَّتها العسكرية، ولا معنى سياسيًّا واضحًا يوجه أفعالها/ممارساتها. القوة العسكرية حرة ووحشية وعمياء من أجل الوصول إلى أهدافها السياسية. ولا أحد من المسئولين الإسرائيليين يمتلك رؤيةً سياسية، ولا أقصد استراتيجية ذات أهدافٍ طويلة المدى محددة بين ولايتين انتخابيتين ويمكن مراجعتها حسب الظروف، وإنما أقصد رؤيةً سياسية يستطيع مؤسسو الجمهوريات تملُّكها. كيف يمكن لهذه الجمهورية ضمان الاستمرارية والبقاء؟ ما هي المؤسسات المستدامة التي يمكنهم أن يتركوها لأبنائهم وأحفادهم، والتي ستضمن لهم الازدهار كأفراد وكمواطنين؟
أتذكر أيضًا المقال الحيوي لإدوارد سعيد بمجلة نيويورك تايمز في خريف ١٩٩٢، والذي أعلن فيه نهايةً أيديولوجية منظمة فتح؛ فالفراغ الذي أحدثه انهيار الأيديولوجيات البيروقراطية والعسكرية الحديثة والغربية، في مجمل العالم العربي، فتح المجال للأيديولوجيات الإسلامية التي مثَّلها حزب الله، وحركة حماس؛ فالإسلاموية الجديدة تمثل رؤيةً أخلاقية خالصة، تأديبية، تمتح من ثورة آيات الله الخميني ضد الغرب التي لقيت صدًى في الأراضي الفلسطينية بفضل خطابها الشرس والداعي إلى تدمير الدولة اليهودية، ولقد نجح في ذلك من خلال البرامج الخيرية في إعادة التوزيع والتضامن الإسلامي.
تُقدِّم حماس، كما هو الشأن بالنسبة لحركات أخرى في تركيا وفي الشرق الأوسط، منظورًا للمساواة و«إعادة التوزيع» والتضامن الإسلامي، الذي يعمِّق أيضًا التسلُّط ومعاداة الليبرالية. ففي سنوات الثمانينيات دعمت إسرائيل حركة حماس كبديلٍ لحركة فتح المكافحة والعلمانية، كما دعمت أمريكا أسامة بن لادن والمجاهدين ضد الفدائيين الأكثر علمانية واشتراكية في أفغانستان. وفي الحالتين معًا، يخرج الشيطان من قُمْقمه.
وإسرائيل الآن كما هو حال أمريكا، محاصَرة بولاءات حماس (حرَّاس السنَّة) المتغيرة في مجال العمل الاجتماعي الإسلامي للعسكرية الإسلامية لحزب الله، كما هو شأن العربية السعودية تجاه أيديولوجيات السنَّة في إيران.
لا شيء يعطي الأمل للتقدُّميين واليساريين في هذا التحالف، التزامنا بالمساواة والتضامن وتقرير مصير الشعوب سيظل مبدأً نقديًّا ولا يقبل التضحية عبر الانخراط الأعمى في هذه المجموعة أو أية مجموعة أخرى.
(٤-١) أمن إسرائيل في عالم ما بعد ويستفاليا
ما هو الغرض السياسي من لعبة إسرائيل؟ نجد إسرائيل قريبةً من صراعٍ من أجل أمنٍ ويستفالي في عالمٍ ما بعد ويستفالي؛ حيث أصبحت الحدود سهلة الاختراق، كما تفعل الميكروبات، الأخبار/المستجدات، السلع، الأموال، كل شيء — باستثناء أجساد البشر — يسافر بسرعة كبيرة وبكميات هائلة تزداد يومًا عن يوم. حُفرت الأنفاق بين مصر وقطاع غزة لتمرير الأسلحة المهربة المشتراة بأموال إيرانية، وضعت أموال البترول الهائلة في أيدي الدعاة المتجوِّلين وأشباه الأولياء من طرف المشايخ وممالك الخليج الفاسدة التي تحمي سلالاتها الهشَّة …
كما وَقَعت أنظمة أسلحة منتهية الصلاحية قادمة من روسيا ومن الجمهورية السوفياتية القديمة من قبيل كازخستان، أذربيدجان … في أيدي إخوانهم المسلمين. كما أن تجار الصين الكلبيين ورجال أعمالٍ روسًا فرحون جدًّا بفتح تجارتهم في المنطقة.
وإسرائيل تتظاهر بالصدمة! الصدمة من كون الصواريخ القادرة على ضرب تل أبيب مخزونة الآن بقطاع غزة وبجنوب لبنان. الصدمة لكون مجموعاتٍ صغيرة من مقاتلي حماس اختبأت وسط السكان المدنيين البؤساء، وأطلقت صواريخ على أدوات محمولة. إلا أن هذا مجرد نفاق. سواء كان هذا استراتيجيًّا أو معنويًّا، فهو لا يفسِّر ولا يبرِّر الانتقام الواسع. وحتى صدام حسين قد أطلق صواريخ سكود على تل أبيب خلال حرب الخليج الأولى، وهرع الأطفال والراشدون معًا للبحث عن أقنعة الغاز مختبئين في شققهم ينتظرون الصواريخ تقع. تعرف إسرائيل أن قوتها العسكرية المفترضة تم اختراقها منذ زمنٍ بأجيالٍ جديدة من الأسلحة.
لا يوجد أمن كامل ولا يُقهر مطلقًا في العالم الجديد، على الأقل منذ ١١ سبتمبر ٢٠٠١ كما لم يكن هناك استقرار كامل في الميدان السياسي.
وحتى القنبلة النووية لا تضمن الأمن والاستقرار، ليس لأن إيران يمكنها أن تملك بدورها قنبلةً نووية، وإنما لأن استخدامها ضد أهدافٍ في لبنان أو سوريا وعلى قطاع غزة على الضفة الغربية والأردن بإطلاق سحابة من الأشعة على كل المنطقة يمكن أن يلوِّث المياه والغطاء النباتي، وهو ما يجعل إسرائيل بدورها غير صالحة للاستيطان.
(٤-٢) أربع رؤًى سياسية
تسود في إسرائيل اليوم خطابات سياسية تساير الوضع ولا تقدِّم أية رؤية سياسية جديدة:
(أ) منظور/رؤية الحرب الدائمة
رغم أنه لا يدافع عنه أي سياسي يحترم نفسه، فالأمر يتعلق بنفسيةٍ داخل كل الإسرائيليين البسطاء، حيث يعتقد الغالبية العظمى أن الحرب نمط عيش؛ لأنه لا يمكن أن يتحقق السلام بين إسرائيل وفلسطين.
(ب) منظور الدولتين
الليبراليون والتقدميون من كل الأصناف يدافعون عن حل الدولتين (دولة إسرائيل ودولة فلسطين)؛ لأنهم يؤمنون بمبدأ المساواة في حق تقرير مصير الشعوب، ويقبل البعض هذا الحل؛ لأنهم قلقون مما يمكن أن نسميه «الانفجار السكاني الذي بدأ بالفعل»، وتسارُع معدل الولادة بفلسطين، ويخشون العيش كأقلية في دولة فلسطينيةٍ كبيرة، ديمقراطية كانت أم غير ديمقراطية.
(ﺟ) منظور إسرائيل الكبرى
هناك أيضا منظور إسرائيل الكبرى المبنيَّة على المعتقد الديني، حيث يسود الاعتقاد أن الأراضي القديمة ليهودا هي في الواقع للشعب اليهودي بلا رجعة.
(د) المنظور العلماني لإسرائيل الكبرى
وهو منظور يختلف عن المنظور الثالث، ويؤكد على أن إسرائيل الكبرى يمكن أن تضمُّ أراضي فلسطينية وتحكمها اتفاقاتٌ اقتصادية من الطرفين بموجِب مناطق التبادل الحر والنمو الاقتصادي. على الأقل منذ مبادرة السلام التي أطلقها إسحاق رابين واتفاقات كامب ديفيد، ويمثل حل «الدولتين» السياسة الرسمية للحكومة الإسرائيلية والأمريكية. رغم أنه مجرد حل متناقض، يخفي في كثير من الأحيان دلالات في الوعي العام.
حل الدولتين مقبول على نطاقٍ واسع، ليس لأنه يضمن حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير وحسب، وإنما لأنه يَعِد ﺑ «فك الارتباط الديموغرافي». فجأة يقدم الديموغرافيون، السياسيون المزيَّفون، الذين يخفون تفكيرهم العنصري، حُجَجًا ترى أن استمرار إسرائيل في احتلال غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية، سيضمن التحكم العسكري في ٥ ملايين من الفلسطينيين العرب، بمن فيهم أولئك الذين يعيشون داخل حدود إسرائيل منذ ١٩٦٧. ونظرًا لارتفاع معدل الولادات في صفوف الفلسطينيين، ساد الشعور بأن الطبيعة اليهودية لإسرائيل مهدَّدة إذا انسحبت من قطاع غزة، خاصة إذا لم تُسَيِّر حماس بعضًا من أراضيها. في الواقع ثمة كوابيس من أن يصبح اليهود أقلية داخل دولة إسرائيل التي أسسوها بأنفسهم خوفًا من ألا يصبحوا مواطنين من الدرجة الثانية، محتقَرين، مستغَلين، ومفترًى عليهم، ويمكن قتلهم بالجملة. وفجأة عادت إلى الظهور في اللاشعور اليهودي أشباح مذبحة اليهود القوزاق في معسكرات الإبادة النازية؛ لذلك فأنْ يشكل اليهود أغلبية من سكان إسرائيل بموجب اتفاق كامب ديفيد «دولتان جنبًا إلى جنب» يُبعد عنهم هذا الكابوس.
لذلك لم يقبل العديد من خبراء إسرائيل والعديد من المواطنين الإسرائيليين هذه الرؤية منذ ١٩٦٧.
العملية العسكرية الحالية على غزة تحمل عناصر الخطابات السياسية الأربعة — الحرب الدائمة، حل الدولتين، إسرائيل دينية كبرى، إسرائيل علمانية كبرى — ولهذا السبب لم تكن متناسقة في أهدافها: هل تريد إسرائيل احتلال غزة من جديد وبناء مزارع بلاستيكية لتدميرها من جديد؟ هل تريد إسرائيل تدمير حماس ومؤسساتها المدنية والعسكرية بالمرة وتغادر غزة آملة حل الدولتين الذي لا يمكن احتمالًا تحقيقه؟ هل تريد إسرائيل احتلال غزة وتعرض فيالقها العسكرية لمخاطر كبرى، وارتكاب جرائم حرب محتملة ضد الشعب الفلسطيني؟ شخصيًّا لستُ واثقة من أي شيء.
(٤-٣) على شاكلة الصين والتبت؟
هل هناك بدائل سياسية حقيقية في ظل الوضع الحالي غير الاستراتيجيات العسكرية التي تُتَّخَذ كرؤًى سياسية؟ هناك داخل إسرائيل حركة لفصل المواطنة الإسرائيلية عن الهوية اليهودية الدينية-الإثنية، يسمح بأن تصبح إسرائيل أرضًا لكل المواطنين. وهذا من شأنه أن يتنصل جزئيًّا أو كليًّا من قانون حق العودة، الذي يعطي الحق في المواطنة الإسرائيلية لكل يهوديٍّ تعترف به السلطة الحاخامية كيفما كانت. وإلى عهدٍ قريب لم يتم إصلاح قانون المواطنة الإسرائيلي والعديد من العمال المهاجرين وأبنائهم، فضلًا عن أن الشركاء غير اليهود وزوجاتهم لا يستطيعون الحصول على الجنسية الإسرائيلية.
صار من سخرية القدر في العقد الأخير من السهل بالنسبة للروس، الذين يدَّعون أنهم يهود، الحصول على الجنسية، على عكس عربي-فلسطيني وُلد ونشأ في القدس الشرقية؛ لأنه يُعتبر (أو تُعتبر) خطرًا على الأمن، ولأن وضعية القدس الشرقية تُعتبر لغزًا وفق مصطلحات الاتفاقات الدولية.
ينبغي أن يتأسس كل نقاشٍ سياسي جِدِّي يتعلق بإسرائيل وفلسطين، على مبدأ أن القوة العسكرية ليست إلا ردعًا، ردعًا مشكوكًا فيه يومًا عن يوم على وجه اليقين، وأن ليس الأسلحة هي من يصنع السلام وإنما البشر؛ فالسلام هو الصالح العام، وإسرائيل قريبة من النموذج الويستفالي للسيادة المنقرض، الذي يَفترض أن الدول قادرة على مراقبة كل حيٍّ أو ميت داخل حدودها. ومعظم الديمقراطيات المتقدمة تعرف أنه نموذجٌ متجاوِز أخلاقيًّا وتجريبيًّا؛ فالسيادة هي مجرد حصة، مجموعة من امتيازات وصلاحيات موكولة للدولة ويمكن تقاسمها، وتفويضها، والتعاقد عليها مع مجموعات أخرى وسُلط أخرى.
العديد من المسئولين الإسرائيليين يعرفون بأنهم لن يسمحوا أبدًا بسيادة كاملة للفلسطينيين على مجالهم الجوي، سواء في غزة أو في الضفة الغربية، ولا على التنقل الحر للبضائع في الموانئ أو خارجها، ولا على احتياطات المياه الجوفية الممتدة على جانبي الحدود، فلماذا إذن ندَّعي أن الدولة الفلسطينية سيادية وستصبح سيادية بالمعنى الذي تحب إسرائيل أن تراها سيادية؟ الحقيقة البسيطة والمحزنة هي أن دولةً فلسطينية من هذا النوع ستظل على الدوام مراقَبة ومتحكَّمًا فيها، وستضربها إسرائيل بين الفينة والأخرى. إنه واقع الحال تحديدًا؛ لأن العديد من أنصار حل الدولتين يعرفون بأن العلاقات المستقبلية مع الدولة الفلسطينية ستكون شبيهة ليس بالعلاقات القائمة بين إيطاليا والنمسا، ولكنها أكثر شبهًا بعلاقات الصين مع التبت وبعلاقات الهند مع كشمير.
(٤-٤) لنتخيَّل كونفدرالية
لنحلم للحظة، لنفترض أن هناك بين إسرائيل وفلسطين كونفدرالية، لنفترض أن تحييد جماعاتٍ من مثل حماس وحزب الله التي لا تعترف بوجود إسرائيل، هو هدفٌ مشترك للفلسطينيين وللدول العربية الأخرى، ولكن لو أن حماس اعترفت بحق وجود إسرائيل، فسيكون لها مقعد على الطاولة، لنفترض أن هناك رقابةً مشتركة على الأجواء، وعلى الطرقات البحرية والمياه التي تمارسها سلطات إسرائيل وفلسطين، لنفترض أن هناك عملة مشتركة وحقوق الاستقرار القانونية لكل مجموعة إثنية داخل مناطق من الأراضي المشتركة.
فإسرائيل لن تلجأ إلى حرب مدنية ضد المستوطنين المتعصبين في الخليل وفي الضفة الغربية، الذين سيُجبَرون على العيش تحت سلطةٍ فلسطينية بلدية جهوية أو الدخول إلى إسرائيل.
لا تعني الكونفدرالية اختفاء السلطة الوطنية المشتركة وهوية كل شعب. وفي بعض نسخ الحدود قبل سنة ١٩٦٧ (الخط الأخضر)، ظلت إسرائيل دولةً يهودية، لها لُغتها الخاصة، وعطلها، وانتخاباتها، ولكنها تقتسم السلطة مع الدولة الفلسطينية في مجالات الجيش والأمن والاستخبارات والمال والتبادلات، وبالمثل للفلسطينيين لغتهم الخاصة وعطلهم وانتخاباتهم، إلا أن الشعبين معًا طوَّرا مناهج مدرسية مشتركة وتحديدًا حول تدريس التاريخ الذي ينصف الحقائق التاريخية ومعاناة الشعبين.
سيتعلم أطفال الجيل الجديد التفاهم والتعاطف بدل الكراهية والحقد بعضهم تجاه بعض. كما سيكون هناك تكافؤ في الحقوق الاجتماعية والاقتصادية في هذه الكونفدرالية، في حالة ما إذا لم يرغب البعض في الاستقرار في بعض المناطق الإسرائيلية الغنية؛ التعددية الدينية والحقوق المدنية الليبرالية ستُحتَرم من طرف الجميع: اليهود، والمسلمين، والمسيحيين، وكل مواطني المعتقدات الأخرى. وبالنسبة للمتدينين الذين يريدون إدارة شئونهم الدينية الخاصة ستَمنح لهم السلطات الدينية رخصًا بذلك، كما أن هناك محاكم خاصة، ولكن أيضًا هناك إعلان للحقوق لكل القاطنين يضمن لهم المساواة في الحقوق المدنية والسياسية.
وإذا سُمح لي بمتابعة حلمي، أتخيل أن هذه الكونفدرالية يمكنها أن تكون نواة ومركز اتحاد في الشرق الأوسط وشعوبه، حيث تركيا ومصر والعربية السعودية والعديد من الدول الأخرى يمكنها الانضمام إليه على غرار نموذج الاتحاد الأوروبي.
المصدر: http://www.pressefederaliste.eu/Quelle-solution-pour-Israel.