الشرط الإنساني ومشكلة الشر
جل التأملات الفلسفية لأوضاع البشر في العالم المعاصر، تنحو منحًى تشاؤميًّا إن لم نقل عدميًّا، وذلك بفضل التشخيص التراجيدي والمأساوي للموجود، وهو الأمر الذي يفرض علينا تفحُّص المبررات وجملة الحجج التي يسوقها الفكر المعاصر للاستدلال على تنامي العبثية والعدمية؛ ذلك أن كتاب «الشرط الإنساني» ينظر في نسيان الماهية السياسية للإنسان (آرنت)، بدل نسيان الوجود بمعناه الهيدجيري؛ أي الانتقال من مجال الميتافيزيقا إلى مجال السياسة. إلا أن هذه الخاصية لا تَسِمُ الفكر الفلسفي المعاصر بالذات، بل نجد لها جذورًا في تاريخية الفكر البشري اعتقادًا أن الشر منذ نشأته الأولى (بداية الخلق) عاصر العدمية في كل أبعادها. وهو الأمر الذي يتقاسمه الدين مع الفلسفة، أو إن شئنا القول العقل في تاريخيته.
(١) أولًا: آرنت ومسألة الشر
(٢) ثانيًا: الشر كفعلٍ تافه
(٣) ثالثًا: الأنظمة التوتاليتارية وسؤال الشر
يعود هذا الاتهام إلى الدور الذي بدأ يلعبه اليهود في العالم (وأوروبا تحديدًا) بعد الحرب العالمية الأولى، بحيث طرحوا أول الأمر مسألة الهوية والحاجة إلى الانتماء إلى بلد ووطنٍ معيَّن، ففي روسيا بعد انتصار الثورة البلشفية كان النقاش محتدًّا لسنوات حول ما يُعرف بالمسألة اليهودية. وهو ما شجع العديد من المفكرين اليهود على التفكير بجدية في مسألة الهوية وإعادة طرحها من جديد، وهو التفكير الذي أسس لمسألة الهوية اليوم.
(٤) رابعًا: غياب الفكر (أو عوز التفكير) والأمل في محو الشر
يستوجب قلب المعادلة من الشر الجذري إلى الشر التافه تغيير النية التي تحدَّث عنها كانط كأساسٍ ذاتي لفعل الخير أو الشر، إلى النية كأساسٍ ذاتي للتفكير؛ لأن غياب التفكير وغياب الفكر الذي لا تؤمن به التوتاليتارية (يمكن أن نسميه مع التفكيكية الاختلاف والإقرار بالتعدد وبالحوار التشاركي)، هو سبب الشر؛ ولهذا يتوجب أن نغيِّر طريقة تفكيرنا نحو الخير دومًا.
فالشر في نظر آرنت لا يعود سببه إلى الفاعل الذي تحوَّل إلى مجرد وسيلة — آلة ميكانيكية — لتنفيذ سياسة عنصرية تقوم على الرفض وعلى معارضة الآخر ولا تعترف باقتسام الأرض مع من يستوطنها، إنه حالة غياب للاعتراف بالغير وغياب الإيمان بالتشارك مع الآخر. هذه السياسة التسلطية التي تقوم على القوة والعنف، لا يمكنها أن تؤسس لسلام ولفعلٍ حرٍّ مبني على تفكير عقلاني لدوام الخير الأصلح للناس؛ لذا فالعنف لا ينجم عنه إلا عنفٌ مضاد، وكان من المفروض ألَّا يحاكم إيخمان باعتباره مجرمًا قام بفعل لا أخلاقي، وإنما يتوجب الاعتراف أنه ليس مذنبًا بقدر ذنب النظام السياسي النازي الذي يمثله، وهكذا كان يكفي أن يعترف أنه ارتكب جرمًا في حق الإنسانية وأنه يتوجب أن يُحاكَم بقانونٍ آخر غير القانون الذي صار هو نفسه منبع الشر.
(٥) خامسًا: الصفح بما هو حلٌّ لمشكلة الشر
- الشر الطبيعي: كل ما يصدر عن البشر من ردود أفعال طبيعية حاملة للشر: القلق، الغضب، الانتقام.
- الشر الميتافيزيقي: ويتعلق بالوجود عامة (تشكل العالم) من جهة، وبالموجود (كل الظواهر والأشياء والكائنات في العالم) من جهةٍ أخرى.
- الشر الأخلاقي: ويتعلق بالسلوك البشري، أي كل الأفعال التي لا تتوافق مع القوانين الأخلاقية (الخطيئة، الجريمة …)
- الشر السياسي: ويُراد به في نظر حنة آرنت Hanna Arendt كل أفعال الشر والسلوكيات السيئة والإجرامية التي تُرتكب في حق البشر بموجب سلطةٍ سياسية أو قوة أو عنفٍ سياسي. وبعبارة أدق بموجب غياب الفكر أو عوز التفكير.
H. Arendt: la condition de l’homme moderne, op, cit, p. 44.
وهذه الأخيرة تتشكل من ثلاثة عناصر أساسية: الشغل le travail، العمل (بمعناه الإبداعي أي الصناعة: أي كل ما يبدعه الإنسان خارج ما هو طبيعي) l’œuvre، الفعل l’action.
وُلد أدولف إيخمان Adolf Eichmann في ١٩ مارس ١٩٠٦، وعمل ضابطًا في القوت الألمانية الخاصة (قوات العاصفة) كأحد الكبار المسئولين عن إبادة اليهود وحرقهم، باعتباره رئيسًا للبوليس السري المسئول عن الجيستابو، وهو أيضا المسئول عن الإعداد اللوجيستيكي والتقني لتلك الجرائم. ينتمي إيخمان إلى عائلة مهتمة إلى حدٍّ ما بالسياسة، غادر المدرسة دون أن يحصل على أي شهادة تعليمية، وبدأ في تعلُّم الميكانيك وفشل في المهنة الجديدة أيضًا، وفي ١٩٣٢ استُدعي مع أبيه لاجتماع الحزب النازي من طرف صديقٍ قديم لعائلته إرنست كالتنبرونر Ernst Kaltenbrunner الذي جنَّده في أبريل من نفس السنة في القوات الخاصة كعضو، وتدرَّج بعد ذلك حتى بلغ أعلى سلطة، ففي مارس (ربيع) ١٩٣٣، حيث استولى هتلر على السلطة، طلب انخراطه المطلق في القوات الخاصة، وفي نونبر من نفس السنة عُيِّن في الفريق الإداري لمعسكر الاعتقال بداشو الذي بدأ في استقبال المعتقلين السياسيين منذ مارس ١٩٣٣.
تدرَّج فيما بعدُ في الأجهزة الأمنية وتكلف بصياغة الحل الثالث القاضي بإبادة اليهود في أفران الغاز، وفي معسكرات الاعتقال التي يصفها معظم الناجين منها بأنها صحراء ممتدة لا تليق لأي نشاط حيواني ناهيك عن النشاط الإنساني.
لا ترى آرنت أن إيخمان يمكن نعته بالرجل الشرير أو بالأحمق أو الشيطان، بل على العكس من ذلك هو رجلٌ عادي جدًّا، تصرف كما يتصرف أي مواطن لا يمتلك الفكر أو القدرة على القرار، فهو ضحية من ضحايا النظام التوتاليتاري، ورغم ذلك فهو مسئول عما قام به، ليس لأنه لا إنساني أو شرير بطبعه، وإنما لأن بإمكانه أن يتخذ قرارًا شجاعًا ضد النظام النازي.
في سنة ١٩٦٠ تم إلقاء القبض على إيخمان Eichmann في بوينوس أيرس من طرف المخابرات الإسرائيلية؛ ليُرحَّل إلى القدس حيث ستتم محاكمته هناك (للمحاكمة التي بدأت في أبريل من سنة ١٩٦١ في أورشليم). انظر تفاصيل ذلك في؛ H. Arendt, Eichman à Jérusalem, op, cit. p. 63.
حيث تميز بين السلطة ﺑ المعنى السياسي le pouvoire والسلطة التي تتعلق بمجالٍ محدَّد هو مجال الفرد وتدبير شئونه الضيقة l’autorité local.