صَبا محمود: نحو أنثروبولوجيا الإسلام
صبا محمود (١٩٦٢–…) أنثروبولوجية أمريكية (باكستانية الأصل)، باحثة نقدية مُعاصِرة تنتمي إلى الجيل الثالث لمدرسة فرانكفورت، وتهتم بقضايا عديدة حول النظرية السياسية والأنثروبولوجيا في منطقة الشرق الأوسط (عضو مركز الشرق الأوسط للدراسات) وجنوب آسيا (عضو معهد الدراسات حول جنوب آسيا)، تركزت أعمالها حول مجتمعات ذات غالبية مُسلمة، ولها مساهمات عِدَّة حول الأخلاق والسياسة، العلاقة بين الدين والعلمانية، مكانة النِّساء ودورهِنَّ في تلك المجتمعات.
تشغل حاليًّا منصب مُدرِّسة مُساعدة في جامعة كالفورنيا بولاية بيركلي، وقبلها عملتْ مهندسةً معمارية لمدة أربع سنوات، غير أن شغفها بالبحث الأنثروبولوجي وخاصة أنثروبولوجيا الإسلام بدأ لما كانت طالبة دراسات عليا في جامعة ستانفورد على يد أستاذها طلال الأسد الذي لعب دورًا هامًّا في مسارها الجامعي والأكاديمي، حيث أقرَّت في حوارها مع ناثان شنايدر: «كُنتُ مهندسةً معمارية لأربع سنوات … وعزمتُ على العودة إلى الدراسات العليا من أجل التفكير في التحوُّلات التي حدثت جراء الصعود الذي عرفه المشهد الاجتماعي والسياسي للمجتمعات الإسلامية، لم أكن أعرف حقًّا الكثير عن الأنثروبولوجيا في ذلك الوقت؛ ولذا التحقتُ ببرنامج الدراسات العليا في العلوم السياسية، الذي وجدته ذا توجهٍ مركزيٍّ أوروبيٍّ للغاية؛ فأدركتُ أنَّ هذا التخصص لن يساعدني على استكشاف نوعية الأسئلة التي كُنت مهتمةً بها، كُنت محظوظة بما فيه الكفاية في ذلك الوقت لألِج حقل الأنثروبولوجيا الذي أصبح بمثابة تخصُّصِي الأصلي.» معتقدة أن أي تخصص آخر كان سيستوعب نشاطها و«لكن الأنثروبولوجيا مكَّنتني من متابعة مسألة الاختلاف بطريقة جدية»؛ لأن الكتابات الأنثروبولوجية المبكرة عن مجتمعات المسلمين قد أغفَلت دور النِّساء، وتركَّزت حول «دراسة الآخر البدائي من أجل تأكيد خصوصية القيم الثقافية والاجتماعية الغربية»، وقد اتجه علماء الإناسة فيما بعد مع تيار ما بعد الحداثيِّين للاشتغال بطريقة نقدية حول مسألة اختلاف الثقافات، التاريخ، التقاليد، تجدد معه البحث فيما يعرف حاليًّا بالتنوع الثقافي. وقد مكَّنها تعاملها مع الفقراء والمحتاجين في الأحياء الهامشية في أمريكا وباكستان، لمساعدتهم على تصميم المساكن وتمويلها وبنائِها، من إدراك قيمة الحياة الاجتماعية التي يحاول فيها سكان هذه الأحياء «أن يفهموا عالمًا ألغى إلغاءً كاملًا إمكانية وجود حياةٍ هانِئة، ورغم هذا لا يزال الناس يحاولون إعادة بناء هذه الإمكانية من خلال مواءمة أنواع مختلفة من الممارسات والعادات».
نالت صبا محمود شهرةً واسعة بفضل أبحاثها القيِّمة حول مكانة النساء في المجتمعات ذات الغالبية المسلمة، حيث أنجزت بحثها الميداني الأول (سياسة التقوى: الإحياء الإسلامي والشخصية النسوية) ما بين ١٩٧٧ و١٩٩٥ حول المُرشدات الدينيات في القاهرة، بعد أن فشلت في إنجازه بفاس والدار البيضاء والجزائر، الذي نالت بموجبه شهادة الدكتوراه، ومنحتها الجمعية الأمريكية للعلوم السياسية جائزة فيكتوريا شوك سنة ٢٠٠٥، فإلى جانب مقالاتِها النقدية ودراساتِها العلمية فقد نشرت مجموعة من العناوين الهامَّة منها: «هل النقد علماني؟» (٢٠٠٩) بمعية طلال أسد، وجوديث بتلر، وويندي براون، وهو بمثابة مؤلف نقدي يُعيد النظر في الجدل الذي أثارته الرسوم الدنماركية والذي صُوِّر بأنه صراع بين التَّجدِيف وحرية التَّعبِير، بين الرؤية العلمانية والرؤية الدينية للعَالم، «سياسات الحرية الدينية» (٢٠١٥)، «الاختلاف الديني في عصر العَلمنة: تقرير حول الأقليَّات الدينية» (٢٠١٥)، الذي ناقشت فيه التعدُّد والتنوع الذي ميَّز منطقة الشرق الأوسط وبلدان آسيا الجنوبية (سواء في البلدان المستقرة سياسيًّا واجتماعيًّا أو في البلدان التي تعيش اضطرابات جراء الحرب والصراعات الأهلية).
حظي كتابها: «سياسة التقوى» بشهرةٍ واسعة بالنظر إلى تحليله للحركات الإسلامية في مصر التي غيَّرت الحياة الاجتماعية والسياسية، والتي شجَّعت النِّساء على المُواظبة على الدروس الدينية في المساجد التي تقدمها المرأة «الداعية» حول الدين منذ ما يقارب ثلاثة عقود في مختلف مساجد القاهرة، وهي دروس هامَّة جدًّا — في نظر صَبا — بالنظر إلى ما تثيره من نقاشات عميقة أعادت الاعتبار للنِّساء المسلمات في الحياة الدينية والاجتماعية بعد التهميش الذي طالها بسبب تأويلات مغرضة في حق النساء، حيث دافعت بقوة عن خروج النِّساء إلى المجال العمومي؛ لمناقشة مواضيع كانت إلى عهدٍ قريب حكرًا على الرجال، ويتعلق الأمر بشئون العقيدة والإيمان، فبرامج الوعظ والإرشاد التي اجتاحت بعض البلدان المسلمة (مصر، باكستان، المغرب …) ستلعب دورًا هامًّا في مجال التأويلات، وستُغذي العديد من الأفعال والسلوكيات الإنسانية.
تناولت صبا في هذا الكتاب موضوعاتٍ هامَّة من قبيل: الحرية، خريطة الحركة التَّقوية، الحِجاج أو فن الإقناع، الأخلاق العملية والتقاليد، دور الشعائرية … وقد قادتها هذه الدراسة إلى سؤال العلمانية معتبرة أن قضايا: الإجهاض، ترسيم البابوات والأئمة الشواذ، ارتداء الحجاب، إعلان الدين أو الأيديولوجيا، النزاعات حول الإجهاض، زواج المثليين … لا تهمُّ مجتمعاتٍ ذات غالبية مسلمة وحدها، بقدر ما تهم أيضًا العالم العَلمانِي الذي جرَّب العَلمنَة لقرون. فبعد أن فرض المسلمون أنفسهم في الغرب عاد النِّقاش إلى المجال العام حول دور الدين في الحياة المعاصرة حيث تقول: «إن تداخل الدين مع الحُكم المعاصر لا يطغى فقط على المجتمعات غير الغربية، إنما أيضًا على تلك الدول التي تُعَدُّ نماذج مثالية لما ينبغي أن تكون عليه الدولة العلمانية، وهذا يتضح في التنظيم القضائي والتشريعي القائم لبعض جوانب الحياة الدينية في الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا» (العلمانية والاختلاف الجنسي والحرية الدينية، ترجمة: نورة آل طالب). فاهتمامُها بالحياة الاجتماعية للقانون، خصوصًا أن العديد من القضايا المعروضة على المحاكم عن حق الحرية الدينية في الشرق الأوسط تُخاض ليس في المحاكم فحسب، ولكن من خلال الحملات الشعبية التي تُطلق في المجالات الثقافية والسياسية؛ فيتشكل شعور الناس عما تعنيه الحرية الدينية من الجدل القائم بين منظمات حقوق الإنسان والحقوق المدنية وحقوق الأقليَّات؛ لذلك تركز بحثها في مصر حول العمل مع ممارسي النشاط الحقوقي، ولا سيما أولئك الذين يستخدمون البروتوكولات الدولية لحقوق الإنسان في استراتيجيَّاتِهم القانونية وحملاتِهم الشعبية.
يتعلق الأمر إذن بالاهتمام بمكانة الرأي العام وحيِّزه في النِّقاش العمومي، وهذا ما دفع الباحث جوليان بوجي في قراءته لهذا الكتاب إلى القول: تُجسِّد صَبا محمود فكرة غاستون باشلار حول الرأي: الرأي تفكير سيئ، إنه لا يفكر بتاتًا، يترجم المعارف إلى حاجات؛ لأن الأطروحة اللِّيبرالية تعتقد أن «طرح الخطاب عن الحرية الدينية، خاصة في صيغتها الفردانية، سيؤدي إلى اختراق دائرة الدين والأسرة والاختلاف الجنسي؛ حيث إن القوة الحاسمة لذلك الخطاب من شأنها أن تخلخِل الدعامة الصلبة لتلك الدائرة، ولكن وكما أظهر تحليلي، فإن الخطاب الدائر حول حق الحرية الدينية عمَّق من تلك الدائرة على عكس ما يُظَّن، مستثمرًا بصورة أكبر الهويات الأقلية والأغلبية في هذه المباحثة. وحقيقة أن هذا الطرح تحقق جزئيًّا عبر قوًى عابرة للحدود القومية ممثلةً في السُّلطة والقانون تُذكرنا بأن مسائل كهذه لا تُحسم ثقافيًّا فقط بل جيوسياسيًّا». وهنا نتلمَّس مكمن الخلل في النظرة المعيارية للدِّين فيه «من الآثار المترتِّبة المُتناقضة لعَلمَنة المجتمعات الإسلامية هو أنه مثلما أصبح للسُّلطة الدينية دور هامشي في إدارة الشئون المدنية والسياسية، هي في الوقت ذاته تكتسب مكانةً مُميَّزة في تنظيم العلاقات الأسرية والجنسية. بعبارة أخرى، نتج عن الخصخصة المتزامنة للدِّين والجنسانية في العالم الإسلامي اندماج الاثنين (الدين والجِنسانية) اندماجًا حتميًّا؛ حيث إن مسائل الهوية الدينية للغالبية المسلمة والأقليَّات غير المسلمة على حدٍّ سواء غالبًا ما يستتبعها نزاعات حول الجندرية والزواج والأسرة. ورغم أن بعض جوانب القصة حول خصخصة الدين والأسرة يتشارك فيها الجزء الغربي وغير الغربي، إلا أن ما هو مميز بشأن المجتمعات ما بعد الكولونيالية أنه في أغلب الحالات لا يزال قانون الأسرة يُدار بما يتوافق مع الإرشادات الدينية فقط، دون الرجوع إلى القانون المدني». فهل تستطيع قوانين الأسرة أن تحل العديد من المشكلات المرتبطة بالحياة الفردية الخاصة للمسلمات؟ وهل بإمكان النظرة المعيارية أن تذهب بعيدًا في ضمان الاستقرار والتعايش في ظل تزايد مشكلات الاندماج الاجتماعي والتعدُّد الثقافي والإثني جراء مشكلات الهجرة التي تسببت فيها عشرات الحروب؟ هناك بعض المميزات الخاصة ببعض الدول كما هو حال قانون الأسرة في لبنان الذي يعرض الخلافات الزوجية على المحاكم الأهلية (حوالي ١٨ قانونًا أهليًّا).
استطاعت صبا محمود أن تلفت النظر إلى أهمية الالتزام الأنثروبولوجي من خلال حثِّها على «التفكير بطريقة نقدية حول اختلافٍ فريد من نوعه في العلوم الإنسانية، يستحق الاهتمام والاستكشاف». فمعها تولَّد مجال بحثٍ واعد يجد مكانته فيما تعيشه مجتمعاتنا من تطورات وأوضاع ستعمق نقاشات سياسية وأيديولوجية ضرورية للرُّقي بأوضاعنا؛ فالجدل الدائِر حول الحجاب والحدود بين الحرية الفردية والحرية الجماعية، نابع أساسًا من تطلع أجيال اليوم إلى الحرية التي لا تقبل المساومة أو المهادنة باعتبارها أساس الوجود الإنساني؛ حرية لا يمكن أن يحُدَّ منها خطاب العُنف وممارسته الفعلية ضد المُختلف والمُعارض والمُنتقد؛ لأن اللُّجوء إلى العنف المادي والرمزي معًا دليلٌ على قرب نهاية وأفُول أيديولوجيا وفكر دوغمائي وإقصائي لا يريد أن يساير التحوُّلات الجارية في كافة المجالات.