نادية دو موند: الوعي بالذات خطوة أولى لتحرير النساء
سنُسلِّط الضوء في هذه المقالة على جانب من جوانب فكرها المُدافع عن مجتمع المساواة بين الرجل والمرأة في سبيل تحرير المجتمع المعاصر من كل أنواع وأشكال البطريركية، وهي تستند في مقالاتِها على جهود فريديريك إنجلز في كتابه: «أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة» والذي تعيد النظر في بعض حُججِه التي استقاها من الدراسات الأنثروبولوجية المعاصرة له. فكيف تفهم نادية دو موند إذن المجتمع الذكوري؟ هل هناك تغييرات جذرية في التحليلات الأنثروبولوجية التي أتحفنا بها مُنظِّرو القرن التاسع عشر لأصل المجتمعات البشرية؟
- أولًا: الوعي بمكانة النِّساء في المجتمع البطريركي؛ فالنظام الأبوي يوجد دومًا في علاقة مع مختلف أشكال إعادة الإنتاج الاجتماعي والاقتصادي. وفي هذه المرحلة من هذا القرن يعني الاعتراف بأن النظام البطريركي مستمر في وجوده ضمنيًّا مع الرأسمالية النيوليبرالية.
- ثانيًا: تحرر النساء؛ أي تحرر نصف النوع البشري، ونصف الطبقة العاملة. إنها إذن وسيلة وأداة لا غنى عنها في الكفاح من أجل تحرر البشرية جمعاء.
هكذا دشَّنت التفكير في ثلاث قضايا متصلة بنضال الحركة النِّسائية: أصل وطبيعة النظام الأبوي، ركائز وأعمدة النظام الأبوي، مفهوم النوع الاجتماعي.
-
إن تبعية المرأة للرجل أمر طبيعي؛ لقد كان الأمر دومًا هكذا.
-
تؤدي الاختلافات البيولوجية القائمة تلقائيًّا إلى الاختلافات الاجتماعية والثقافية؛ وبالتالي إلى تراتبية هرمية بين الجنسين.
-
تؤدي القوة العضلية الكبرى للرجال إلى الهيمنة.
- (١)
أن القوة العضلية نسبية جدًّا وترتبط بالتدريب والنظام الغذائي …
- (٢)
أن القوة الطبيعية في مجتمعاتنا الحالية ثانوية في إشباع حاجياتنا بالنظر إلى التكنولوجيا التي نستعملها.
فالعودة إلى ما قبل التاريخ تستوجب أولًا دراسةً عملية دقيقة لتجاوز مجموع الأساطير التي تُحبَك من قبيل أن الرجل صيادٌ بارع، طوَّر خصائص فيزيولوجية ونفسية للهيمنة؛ كالعدوان، والمكر، والتخطيط الاستراتيجي … لهذا تدعو إلى ضرورة فحص أمهات الكتب، متسلحين بسؤال: هل كانت الهيمنة الذكورية موجودة دومًا؟ نعود — على الأغلب — في الأدب الماركسي إلى الكتاب الهام لإنجلز في نهاية القرن التاسع عشر: «أصل العائلة، والملكية الخاصة، والدولة» (الذي ارتكز على الحوارات مع ماركس وملاحظاته؛ والذي لم تتَح له الفرصة لتركيبها).
كان إنجلز بحق يفكر على العكس تمامًا بأن هذه المجتمعات كانت أمومية؛ حيث أسست النِّساء النَّواة القارة للعشيرة، وكنَّ من يُحدِّدن النَّسل؛ وبالتالي يتمتعنَّ بسلطةٍ واسعةٍ وباحترامٍ كبير من قِبل الرجال. وقد بيَّنت الدراسات الأنثروبولوجية الحديثة خطأ هذه الفكرة. بحيث لا يمكن الحديث عن مجتمعات أمومية، وإنما عن عصرٍ أمومي.
أولًا: ربط وضعية النساء بالسياق المادي، الاقتصادي، والاجتماعي، وبالتقسيم الجنسي للعمل، وبمساهمة كل جنس في تغذية القبيلة. ثم؛ وهذا مناسب تمامًا؛ بعد معرفة أن إعادة الإنتاج البيولوجي والاجتماعي كعامل ورهان هامَّان بالمقارنة مع الإنتاج المادي. إنه نقاش راهن في الحركة النسوية، وفي مدارس المادية الجدلية، والتي تعيد النظر حاليًّا في قيمة العمل: الإنتاج وإعادة الإنتاج في الموجة الثالثة للرأسمالية.
وبحسب الدراسات الأنثروبولوجية المعاصرة، يوجد في كل الحضارات المعروفة في التاريخ شهادات مكتوبة حول اضطهاد النساء ابتداءً من ١٥٠٠ سنة قبل الميلاد؛ ولهذا تفحص نادية مرحلة ما قبل التاريخ، والتي تمتد ما بين ٣٥ ألف و٦٠٠٠ سنة قبل الحضارات، والمُسمَّاة بالعصر الحجري القديم جدًّا، حيث لا توجد لدينا أي شهادات مكتوبة.
كيف حدد المؤرخون والأنثروبولوجيون هذه المرحلة؟
ليس لدينا إذنْ أدلة دامغة، بل نقدِّم فقط افتراضات، ونحاول بفضل هذه الدراسات العلمية القيام بتغذية المادية التاريخية بوضع نساء ورجال ما قبل التاريخ في سياقٍ جغرافي وبيئي. حيث كانت المجتمعات البشرية الأولى تتشكل من مجموعاتٍ صغيرة (عشائر، قبائل …) غير مهيكلة، بدوية، مع تنظيمٍ مُحكَم للعمل. كانوا يعيشون من جني الثمار وصيد الأسماك والطرائد الصغيرة؛ وهو صيد يشارك فيه الجميع، ويستهلك الجميع كل ما يصطادونه، دون أن يحصل هناك أي فائض.
بدأ أول تقسيم للعمل (احتمالًا) مع صيد الطرائِد الكبيرة — بالتزامن مع التطور التكنولوجي في إنتاج الأسلحة — الذي يتطلب اللِّحاق بها مدة طويلة، وأحيانًا غيابًا غير متوقَّع، وهو ما يصعب التوفيق بينه وبين الحمل والرضاعة. هذا ناهيك عن أن النِّساء يتفرغن لإعادة الإنتاج الطبيعي للعَشِيرة، ومن غير المناسب وضع حياتهن في خطر.
بدأ تقسيم العمل وظيفيًّا، ولا يرتبط «بالقدرات الفيزيائية»؛ ففي الواقع هناك على سبيل المثال مشاركة الإناث العزباوات اللَّواتِي لا يملِكنَ أطفالًا؛ في الصيد. لا تلغي الفروق الجنسية المساهمة المشتركة لكلا الجنسين في الحفاظ على بقاء الجماعة، كما لا تقلل من قيمة جنس لحساب جنسٍ آخر. وأكثر من ذلك، ففي معظم مجتمعات الصيد وجني الثمار، في الحاضر كما في الماضي، لا يمثل الصيد إلا نشاطًا مساعدًا وعرَضيًّا؛ حيث تساهم النساء ﺑ ٦٠٪ من الغذاء. وللقيام بذلك عليهن أن يتحركن على مساحات كبيرة من الأراضي حاملاتٍ أطفالهن. وتتطلب أنشطتهن المتنوِّعة معرفةً عميقة بالوسط، وبالنباتات والمناخ، وبخصائصها الغذائية والطبية: الحفاظ على النار، اختراع الأواني وامتهان الفَخَّار. ناهيك عن كل الأعمال المرتبطة بالطرائد الكبيرة التي يجلبها الرجال في الصيد (الطبخ، الحفاظ على المئونة، الخياطة …)
هناك شيئان ساهما بشكلٍ أساسي في ضمان بقاء القبيلة: إنتاج الغذاء، وإعادة الإنتاج الطبيعي؛ حيث لعبت النساء دورًا قياديًّا، علاقة غامضة بالحياة وبالموت، لقد وجدن في مختلف الأماكن مجموعة من تماثيل «الأُمهَات الإله» والتي تشهد على عبادة النِّساء اللَّواتي يتمتعن بالقدرة على إعادة الإنتاج، وبالاحترام خشيةً من سلطة المرأة التي يمكن أن يستوحيها الرجال.
كانت — في نظر نادية دو موند — معظم مجتمعات الصيد وجمع الثمار في مجتمعات الأمومة تعيش بسلام (على الأقل في ظروف بيئية مناسبة) مع القبائل الأخرى التي تلتقي معها من حين إلى آخر. ففي مجتمعات الأمومة (حيث الزوج يقيم في بلدة الزوجة الأصل من أمها-الأمِيسية) بشكلٍ عام، فإن وضعية المرأة أفضل من وضعيتها في مجتمعات أبوية (حيث تقيم الزوجة في بلدة الزوج الأصلية-الأبِيسية) وهذا بديهي.
-
الحصول على أكبر عدد ممكن من النساء لضمان استمرار وبقاء العشيرة.
-
تندمج النساء ببساطة في القبائل الجديدة لأنهن لا يستطعن مغادرتها بسبب الأطفال.
-
تظل النِّساء في قبيلتهن الأصلية لأنهن مناسبات للعشيرة أكثر من الرجال — الصيادين الكبار — بفضل معرفتهن أكثر بالأرض.
غير أنها تبقى مجرد فرضيَّات تستوجب تحقيقات أنثروبولوجية دقيقة نفتقر إلى وسائلها اليوم للخروج بخلاصات مبرهنة ومقبولة، وقادرة على تفسير عمليات الانتقال تلك حسب المناطق؛ لأنه يستحيل أن يكون الانتقال واحدًا في جماعات مختلفة يبعد بعضها عن البعض ولا تتصل الواحدة بالأخرى؛ جراء كون المنافسة والصراع أساس تدبير العلاقات القبلية في المجتمعات البدائية.
هكذا يبدو من الواضح في جميع الحالات أن اللامساواة تطورت قبل انقسام المجتمع إلى طبقات، بحيث حدثت تغيرات اجتماعية هامة مع ظهور الزراعة المستقرة — ثورة العصر الحجري الحديث — حوالي عشرة آلاف سنة قبل الميلاد في الشرق المتوسط، وحوالي ١٣ ألف سنة قبل الميلاد في كامبوديا، وازدهرت هذه الزراعة في أوروبا خلال ستة آلاف سنة قبل الميلاد.
يتطلب استعمال المحراث في البداية قوةً ذكورية (قبل استعمال الأبقار). وهذا ما عزَّز رقابة الرجال على الفائض. ولجمع المحاصيل الاستهلاكية يتوجب مضاعفة عمل النساء لتحويل الفائض إلى مخزون، إضافة إلى الأنشطة الأخرى من الإنتاج الاجتماعي: النسج، الخزف، الغسيل، الصيانة … فليس للنساء هوايات، على عكس الرجال الذين يتمتعون بأشياء أخرى (مهن أخرى أو طقوس).
تستند نادية في هذه المعطيات إلى معيارٍ منهجي مادي واضح: إن البحث في الأثر المادي الملموس لوضعية النساء في المجتمعات البدائية يمنحنا إمكانية فهم الأسس الأوَّلية التي قامت عليها اللامساواة بين الجنسين قبل ظهور المجتمعات الطبقية بالشكل الذي ستتطور فيها إلى حدود الوضع الذي نعيشه اليوم في ظل سيطرة الرأسمالية على مجمل مجالات الوجود البشري. فالنظام الأبوي-البطريركي نظام هيمنة يبني كل مجالات الوجود، ولا تستطيع الرأسمالية القضاء عليه ما دام هو معيارًا لضمان تراتبية اجتماعية وسياسية تخدم مصالح الطبقات المالكة لوسائل الإنتاج؛ لذا فإن عملية إعادة الإنتاج كلها تتجه بهذا القدر أو ذاك نحو الحفاظ على الهيمنة الذكورية، رغم الاعتراف بالمساواة وتوسيع هامش انخراط النساء في دائرة العمل خارج المنزل؛ مما يشي بتحويل الاستغلال إلى جوانب أخرى وهوامش كانت بالأمس حكرًا على الذكور.
وفي بحثها للحقبة الرَّاهِنة حيث تسيطر الرأسمالية العالمية على كل العالم، ترى أن النِّساء يُستعملن كجيشٍ احتياطي للصناعة (ماركس) في الاقتصاد الرأسمالي — يُدمج في فترات التوسع الاقتصادي ولكن يُسرَّح في فترة الانكماش الاقتصادي أو فترات الأزمة. ويتم تبرير هذه الممارسة بفكرة أيديولوجية مفادها أن الرجل هو من يلبِّي أساسًا حاجيات الأسرة، وأن المكان الطبيعي للمرأة هو المنزل كربة بيت. كما تُستخدم النساء مكان قوة العمل الذكورية لإضعاف الطبقة العاملة وتقسيمها، كما تُستعمل النساء بطبيعة الحال في أقسام «ضعيفة»، «هامشية» من الطبقة العاملة كما هو حال المهاجرين. ويؤدي ذلك إلى اشتغال النساء بأجور زهيدة، وفي ظروف عمل جد هشة؛ ليتمكن من الجمع بين الشغل من أجل السوق وبين مهام إعادة الانتاج الأسري. وهو ما يؤدي إلى وظائف غير مضمونة ومؤقتة … ومعاش بئيس. وبالجملة تجد النساء في وضعية استقلال اقتصادي جزئي بالمقارنة مع الرجال.
نشهد حاليًّا تأنيثًا حقيقيًّا لعالم الشغل، وهذا لا يعود إلى الزيادة القوية في عدد النساء النشيطات في الاقتصاد في العقود الأخيرة وفي كل العالم الرأسمالي المعولم، وإلى استعمال ما يسمونه تأنيث الشركات: القدرة على ربط العلاقات والتواصل، الاهتمام والعناية بالمهمة، التفاني، الليونة، الانصياع كطباع … الاندماج الهش في عالم الشغل؛ ارتباط ليِّن بالشركة؛ ساعات عمل متغيرة في خدمة الشركة بين وقت العمل وانشغالاتها (وقد تصحب معها العمل إلى المنزل). لقد صار هذا نموذجًا لجميع الأجراء رجالًا ونساء. إننا نتحدث عن استغلال مزدوج للنساء اللواتي يزاولن عملًا مأجورًا.
تعرج نادية على الإشارة إلى مقاربة هامة لتيار جديد من النسوية نسميه نسوية العناية، حيث الاهتمام متزايد بوضع النِّساء في عالم الشغل؛ كساعات الرضاعة للتخفيف من حدة التوتر جراء العمل وللزيادة في المردودية. ونفس الشيء بخصوص القروض الصغرى حيث تعمد الرأسمالية إلى انسحاب الدولة من مسئوليتها تجاه مواطنيها، من خلال تحميلهم المسئولية في ضمان عملية إعادة الإنتاج؛ فعلى الفرد وخاصة النساء اللواتي يزاولن عملًا اجتماعيًّا غير مؤدًّى عنه أن يتحملن المسئولية في إعالة أسرهن؛ لذلك تُقدَّم لهن قروض بشعة بدعوى التنمية الذاتية والمستدامة. إنه استعباد جديد ما بعده استعباد.
ولهذه «العناية» تأثير حقيقي على ولوج النساء للمجال العمومي، ففي بلدان أفريقيا الشمالية وفي أغلب دول الخليج والشرق المتوسط لا تزال النساء مقصيَّات من العملية السياسية ومحرومات من حقوقهن الدستورية، ويتعرضن لكل أشكال الاضطهاد في المجال العام. فإذا استطاع الجيل الأول من الحركة النسوية في عشرينيات القرن الماضي انتزاع مكاسب المشاركة السياسية: الحق في التصويت (حصل في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية) وفي ولوج المؤسسات العمومية كما هو الحال في أوروبا مثلًا فإن ذلك الولوج لا يزال ضعيفًا حتى في المجتمعات الغربية؛ لأن نسب النساء في الحكومات والبرلمانات والمجالس الجهوية والإقليمية لا يزال محتشمًا بالمقارنة مع حضور الرجال.
تُوهمنا الليبرالية أن ولوج النساء للفضاء العام قد تحقق بشكل يخدم المساواة ولكن في حقيقة الأمر لا تزال النساء حبيسة المنازل كرقمٍ هام في عملية إعادة الإنتاج، وفي العمل الاجتماعي غير المؤدى عنه.