جوديث بتلر فيلسوفة النوع والهوية: كيف نعيش حياةً حقيقية ضمن حياة زائفة؟
غادرت سنة ١٩٩٣ جامعة جونس هوبكينز، بعد حصولها على كرسي ماكسين إليوت بشعبة البلاغة والأدب المقارن بجامعة بيركلي بكاليفورنيا، وهي السنة التي أصدرت فيها دراستها الشهيرة «هذه الأجساد التي يجب اعتبارها». كما حصلت سنة ٢٠٠٦ على كرسي حنة آرنت للفلسفة في كلية الدراسات الأوروبية العليا بسويسرا. وانتُخبت سنة ٢٠٠٩ رئيسة محكمة هوسرل حول فلسطين، والتي تجمع المثقفين الأمريكيين حول القضية الفلسطينية لحشد شروط سلام دائم وعادل بين إسرائيل وفلسطين؛ وذلك بفضل موقفها الثابت من رفض وشجب عنف الدولة الإسرائيلية.
تنتمي جودي (كما يحلو لأصدقائها الجامعيين مناداتها)، إلى النظرية النقدية المعاصرة، بفضل إسهاماتها المتعددة حول قضايا فلسفية متنوعة، حافظت من خلالها على إرث مدرسة فرانكفورت؛ لذلك حصلت سنة ٢٠١٢ على جائزة أدورنو الذائعة الصيت، عن جدارة واستحقاق، رغم هجوم الصهاينة عليها علنًا. وهناك الكثير من الدراسات التي اهتمت أخيرًا بفكرها الفلسفي والسياسي، منها تحديدًا: «الفلسفة السياسية عند جوديث بتلر»، من تأليف بيرجيت شيبرز (٢٠١٤)، الذي عالج فيه سياسات تَشكُّل الذات، فلسفة الإنسان السياسية، مفارقة العنف، نحو مجتمع ما بعد العلمانية. إلى جانب الدراسة النقدية التي أنجزها ستيفان هابر سنة ٢٠٠٦. تحت عنوان: «نقد مناهضة النزعة الطبيعية: دراسات حول فوكو وبتلر وهابرماس»، ناهيك عن مئات المقالات، وسيرتها التي كتبتها سارة صالح تحت عنوان: «جوديث بتلر» (٢٠٠٢)، وفحصت فيها مفاهيم: الذات، والجنوسة، والجنس، واللغة، والنفس.
تَشكَّل الفكر الفلسفي لبتلر منذ مراحل مبكرة من حياتها. وقد جالت في الفكر الحديث، وساجلت اسبينوزا وروسو وهيغل وكانط، وطوَّرت فلسفة فوكو وفرويد والتوسير وجاك لاكان وهابرماس وجاك دريدا وسيمون دي بوفوار، في حوار معها، مع مجلة الفلسفة (العدد ٦٦)، قالت بتلر، إن علاقتها بالفلسفة بدأت من قبو منزلها العائلي، حيث وضع والداها كتابات فلسفية مختلفة: «هناك قرأت اسبينوزا (كتاب الإثيقا) وكيركغارد وآخرين». بعد اطلاعها على هيغل، ستتبنى بتلر مفهوم الاعتراف الذي أثر في حياتها السياسية والفلسفية فيما بعد؛ نظرًا لالتصاقه بوضعها الذاتي؛ فالرغبة في العيش، كما تحدث عنها اسبينوزا، غير ممكنة في نظرها إلا من خلال الاعتراف الهيغلي، بحيث لا يرتبط الاعتراف بتحقيق الرغبة في العيش فقط، وإنما العيش بطريقة حرة ومختارة، أي أنه يطرح سؤال الهوية تحديدًا التي لا تنظر إليها كشيء ثابت ومحنط، بل كهوية تتشكل بحسب الظروف التي ينمو فيها الفرد، وبفضل تنشئته الاجتماعية التي يخضع لها. وهكذا فمعرفة الذات لا تتم من خلال الغير ولا ترتبط به؛ لأنها قد تكون هوية غير اجتماعية، أو خاضعة لمعيارية اجتماعية هي بمثابة أحكام قبلية غير صحيحة؛ لذلك نقرأ لها في كتابها «الذات تصف نفسها»: «بينما نحن نطلب معرفة الآخر، أو نطالب الآخر أن يعرِّف نفسه على نحو نهائي ومؤكد، فإن من المهم لنا ألا ننتظر جوابًا شافيًا بأي حال.
إننا بامتناعنا عن السعي إلى القناعة، وبإبقائنا السؤال مفتوحًا، بل حتى ثابتًا، نمنح الآخر فرصة أن يعيش ما دام بالإمكان فهم الحياة بوصفها، على وجه الدقة، ذلك الذي يتجاوز أي وصف قد نقدِّمه له … إذا كان في السؤال رغبة في الاعتراف، فعلى هذه الرغبة أن تبقي نفسها حية بوصفها رغبة وألا تحلَّ نفسها … إن الرغبة يجب أن تدوم. في الواقع، يكون الإشباع نفسه، أحيانًا، الوسيلة التي يتخلى بها المرء عن الرغبة، الوسيلة التي ينقلب المرء بها ضدها، ويرتب لموتها السريع.»
من المعلوم أن سؤال الرغبة والحاجة إلى الاعتراف عند جودي، ليس أمرًا معزولًا عن العلاقة مع الغير، كما أنه لا ينفصل كليًّا عن سؤال الهوية وعلاقتها بالذات؛ فالهوية ليست سابقة على الوجود الاجتماعي بالقدر الذي يكون فيه هذا الوجود هو أساس الهوية. وقد استعارت جودي هنا، عبارة سيمون دي بوفوار: «المرأة لا تولد امرأة، بل تصبح كذلك»، وهو ما يقود إلى التساؤل حول الهوية (وأساسًا الهوية الجنسية) التي تتميز اليوم بالتعدد والتنوع: كيف يمكن الاعتراف برغبتي؟ وكيف تؤسس المعايير لهذه الرغبة؟ وهل يمكنك الاعتراف برغبتي لأتصرف كراغبة في شيء ما، ولربما ما يحلو لي؟ لذلك تصرح: «عندما أطرح السؤال الأخلاقي: كيف يتوجَّب عليَّ أن أعامِل الآخر؟ أنا أقع مباشرة في قبضة مملكة من المعيارية الاجتماعية، ما دام الآخر لا يظهر، ولا يشتغل بوصفه آخر بالنسبة لي، إلا ضمن إطار أستطيع أن أراه وأفهمه في انفصاله وخارجيَّته. وهكذا، فرغم أني قد أفكِّر في العلاقة الأخلاقية بوصفها ثنائية، أو بالأحرى سابقة على الاجتماعي، فإني لا أقع في قبضة مجال المعيارية وحسب، ولكن في إشكالية القوة … فالقواعد لا تعمل على توجيه سلوكي وحسب ولكنها تقرر النشوء الممكن للقاء بيني وبين الآخر.» (الذات تصف نفسها ٦٩). تحاول جودي الجواب عن سؤال طرحته في خطابها، بمناسبة نيلها جائزة أدورنو (خطاب تحت عنوان: «أخلاق لعصر هش»): كيف يمكن أن نعيش حياة حقيقية ضمن حياة زائفة؟ بحيث يقرُّ أدورنو أنه «لا توجد حياة حقيقية ضمن حياة زائفة»، حياة حقيقية داخل عالمٍ مبنيٍّ بشكلٍ واسع على اللامساواة والاستغلال والإقصاء. إنه سؤال مركب يطرح من خلاله أدورنو العلاقة بين الأخلاق والشروط الاجتماعية، أو بصيغة أعمَّ، العلاقة بين الأخلاق والنظرية الاجتماعية. تصرح بتلر: «أحبذ أن أُظهر أنه لا يمكننا أن نناضل من أجل حياةٍ جيدة؛ حياة تستحق العيش، دون الاستجابة للحاجيات التي تسمح للجسم بضمان الاستمرارية.» لذا فكيف يمكن التفكير في حياة قابلة للعيش دون افتراض تصور مثال واحد أو موحَّد لهذه الحياة؟
فحصتْ جودي في خطابها ذاك، سؤال الحياة الجيِّدة عند حنة آرنت، وتقول: «ميَّزت حنة آرنت بشكلٍ حاسم في كتابها «حياة الذهن» (١٩٧١) بين الرغبة في العيش والرغبة في العيش الكريم، أو بالأحرى الرغبة في حياة جيِّدة. لم يكن البقاء بالنسبة لحنة آرنت ولن يكون هدفًا في ذاته، ما دام أن الحياة لم تكن أصلًا جيدة؛ فالحياة الجيدة وحدها تستحق أن تُعاش. لقد وضعت بسهولة حلًّا لهذه المشكلة السقراطية، ولكن — كما يبدو على الأقل — بشكلٍ متسرع جدًّا. لستُ متأكدة من أن إجابتها ستنقذنا في إغاثة، كما أني لست مقتنعة أنه ذات يوم ستكون إجابة فعَّالة»؛ فآرنت «تفصل أساسًا، حياة الجسد عن حياة الذهن، وبموجب هذا، أقامت في كتابها (شرط الإنسان الحديث)، تمييزًا بين الفضاء العمومي والفضاء الخاص. يضم الفضاء الخاص عالم الضرورة، إعادة إنتاج الحياة المادية، الجنسية، الحياة، الموت، والطابع الانتقالي للحياة. كانت تعتبر بشكل واضح، أن الفضاء الخاص يدعم الفضاء العمومي للفعل والفكر. ولكن السياسة في تصورها، تتحدد بالفعل، في الإحساس الفعَّال بالكلام. كما يصير العمل اللفظي، أيضًا، فعلًا سياسيًّا في الفضاء التداولي والعمومي؛ ما يجعل دخوله للفضاء العمومي ينطلق من الفضاء الخاص؛ وبالتالي فالفضاء السياسي يعتمد أساسًا على إعادة إنتاج الخصوصي كجسرٍ واضح، من الخاص إلى العام.»
هكذا تصل بتلر إلى أن التحرك السياسي في الفضاء العمومي، لا يتم فقط عبر الجسد، على أن طرق التجمع والغناء أو الهتاف، أو حتى الصمت في الشارع هي جزء لا يتجزأ من البعد الأدائي للسياسة، حيث يتحدد الخطاب كفعلٍ جسدي من ضمن أفعالٍ جسدية أخرى. تتصرف الأجساد حينما تتكلم، وهذا مؤكد، ولكن الكلام ليس وحده طريقة للفعل بالنسبة للأجساد؛ ومن المؤكد أنه ليس وحده شكلًا للتحرك السياسي.
تعتبر جودي من دعاة الحل الثالث للقضية الفلسطينية: البحث عن الاعتراف المتبادل بين الشعبين؛ أي تسوية للعيش المشترك حيث الأمن والاستقرار. غير أن هذا الأمر يرتبط بالفلسطينيين وبقرارهم الذي تعتبره القرار الحاسم. وقد تذكرتْ موقف إدوارد سعيد الذي تراجع عن حل الدولتين حيث تقول: «من وجهة نظري أن شعوب هذه الأراضي، يهودًا وفلسطينيين، يجب أن يجدوا طريقة للعيش سوية على أساس المساواة. ومثل الكثيرين، أتطلع إلى كيان ديمقراطي على هذه الأراضي، وأؤيد مبدأ تقرير المصير والعيش المشترك لكلا الشعبين، وفي الواقع، لكل الشعوب. وأمنيتي، كما هي أمنية عدد متزايد من اليهود وغير اليهود، أن ينتهي الاحتلال، ويتوقف العنف بكافة أشكاله، وأن يتم ضمان الحقوق السياسية الأساسية لكافة الشعوب في (هذه) الأرض عبر تركيبة سياسية جديدة.» ويعود ذلك، إلى اكتشافها الفكر اليهودي في سن الرابعة عشرة من عمرها كما تقول (مجلة الفلسفة العدد ٦٦): «تابعتُ الدروس حول الدين والعبرية في معبدي بمدينة كليفلاند، كما اطلعتُ أيضًا على الروايات والكتب حول إسرائيل والهولوكوست. لقد شغلتني هذه المسألة منذ مدة طويلة، وتحضر في الكثير من كتبي»؛ منها على سبيل المثال: «الخطاب المثير: سياسات الأداء» (١٩٩٧)، و«الحياة النفسية للقوة: نظريات في الإخضاع». وتشكل جودي مثالًا ﻟ «المثقفة الجريئة المتعاطفة»، كما وصفها البيان التضامني للمثقفين الفلسطينيين بعد الهجوم الذي تعرضت له سنة ٢٠١٢ إبان ترشيحها في ألمانيا؛ فهي عضو في الهيئة الاستشارية ﻟ «الصوت اليهودي من أجل السلام»، وممثلة في اللجنة التنفيذية ﻟ «أساتذة من أجل السلام الفلسطيني-الإسرائيلي، في الولايات المتحدة الأمريكية»، وفي «مؤسسة مسرح الحرية في جنين».
تطرح بتلر دومًا السؤال (مجلة ف.ع.٦٦): هل ينبغي لزوم الصمت؟ هل ينبغي إنكار الوضع اليهودي تحت ذريعة أننا لا نقبل سياسة إسرائيل؟ لا، فإسرائيل لا تمثل كل اليهود، والصهيونية ليست زعيمة اليهودية؛ لأنه «لا يمكنني شخصيًّا، أن أكون يومًا مناهضة للسامية. كنتُ ساذجة! وصرختُ أولًا، في وجه هذه الاتهامات في ألمانيا سنة ٢٠١٢. حينما حصلتُ على جائزة أدورنو، بأن هذا ليس إلا لغوًا، ولكن ليس الأمر كذلك، إنه حقًّا أمرٌ جدِّي … كانت هذه التجربة صادمة، ومؤلمة جدًّا. بالنسبة لليهودي، لا يوجد امتحان أسوأ. وبالنسبة لي كيهودية، لا يوجد ما هو أسوأ من الاتهام.» وهي ترفض العنف تحت أي مبرر، حيث صرحت في محاضرتها سنة ٢٠١٠ في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، في ذكرى إدوارد سعيد: «كنت دومًا ميَّالة إلى الفعل السياسي اللاعنفي»، و«إنه لصحيح أنني لا أؤيد ممارسة المقاومة العنفية، كما لا أؤيد عنف الدولة، ولا يمكنني تأييد ذلك، ولم أفعل ذلك يومًا.» وهذا ما تؤكده كتاباتها في هذا المضمار: «حياة قلقة-مستباحة: قوى العنف والعزاء»؛ و«أطر الحرب: متى يؤسى على الحياة؟»؛ و«طرق متفرقة: اليهودية ونقد الصهيونية»؛ «حياة هشة»: حول سلطة العنف والمآثم بعد أحداث ١١ سبتمبر (أيلول) ٢٠٠١.